لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا (وَلَوْ قَالَ: مَالٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ وَالنِّصَابُ عَظِيمٌ حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ، وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَعَنْهُ مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ،
بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ (لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا) فَإِنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَالِ عَلَيْهِ عَادَةً، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ: وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ وَدِرْهَمٌ مَالٌ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظُ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا بَيَّنَ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْبَيَانِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ مُنْطَلِقٌ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ وَسُدُسِ دِرْهَمٍ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الدِّرْهَمِ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الِالْتِزَامِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ فَحَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَهُ اهـ.
وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي أَجْنَاسِهِ: وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِدِرْهَمٍ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْهَارُونِيُّ: لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ هُوَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَجْنَاسِ (وَلَوْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ: يَعْنِي لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَعَلَيْهِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ قُلْنَا: فِيهِ إلْغَاءٌ لِوَصْفِ الْعِظَمِ فَلَا يَجُوزُ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ) أَيْ مَوْصُوفٍ بِوَصْفِ الْعِظَمِ (فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ الْوَصْفِ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِمَا يُعَدُّ عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ (وَالنِّصَابُ) مَالٌ (عَظِيمٌ) فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، (حَتَّى اُعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا بِهِ) فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ (وَالْغَنِيُّ عَظِيمٌ عِنْدَ النَّاسِ) فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَاخْتَلَفَتْ رِوَايَةُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ فِيهِ، فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَ ذَلِكَ فَقَالَ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) أَيْ رُوِيَ عَنْهُ (أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهِيَ نِصَابُ السَّرِقَةِ) وَنِصَابُ الْمَهْرِ أَيْضًا (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ هَذَا النِّصَابَ (عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الْمُحْتَرَمَةُ) وَيُسْتَبَاحُ بِهِ الْبِضْعُ الْمُحْتَرَمُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ (مِثْلُ جَوَابِ الْكِتَابِ) أَيْ مِثْلُ مَا ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا حَتَّى تَجِبَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ اهـ.
وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِقِيلٍ خَلَا قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ كَوْنَ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ هُوَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ إيجَابَنَا الْعَظِيمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَظِيمَ مَاذَا؟ هَلْ هُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ أَمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ؟ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ، إذْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَقُولَ: بَلْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ قَطْعُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute