قَالَ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا) بِإِقْرَارِهِ (لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ،
الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ.
(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ) قَالَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ: وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً لَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى ﵇ حَيْثُ قَالَ: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً. وَقَالَ ﷺ «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنِيَّاهُ» وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا بِكَلَامٍ هُوَ عَزِيمَةٌ، لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا عَنْهُ، فَإِنَّ الْمَفْصُولَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا.
أَمَّا هَذَا فَبَيَانُ تَغْيِيرٍ وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ (لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ (أَوْ تَعْلِيقٌ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي طَلَاقِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ كَمَا ذَكَرَ فِي طَلَاقِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالتَّتِمَّةِ وَاخْتَارَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ كَمَا فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إبْطَالٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَعْلِيقٌ يَقَعُ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْجَزَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ وَبَقِيَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَقَعُ، وَكَيْفَمَا كَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ) وَهُوَ الْإِبْطَالُ (فَقَدْ بَطَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي) وَهُوَ التَّعْلِيقُ (فَكَذَلِكَ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَغَا تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ (أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ وُقُوعَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَالتَّعْلِيقُ بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ (كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ فُلَانٌ قَدْ شِئْت فَهَذَا إقْرَارٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فِي وُجُودِهِ خَطَرٌ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا فِيهِ خَطَرٌ يَمِينٌ وَالْإِقْرَارُ لَا يُحْلَفُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَلِيقُ التَّعْلِيقُ بِهِ أَصْلًا، إنَّمَا التَّعْلِيقُ فِيمَا هُوَ إيجَابٌ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ إقْرَارٍ عُلِّقَ بِالشَّرْطِ أَوْ الْخَطَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute