وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ فَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايَعَةً وَمُنَاكَحَةً. وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِ الْغَيْرِ، وَفِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ اسْتِيفَاءً، وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ.
الْحَالَةِ أَكَثُرُ فَكَانَ جِهَةُ قَبُولِ الْإِقْرَارِ فِيهِ أَوَفَرَ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ؛ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِنَّمَا يُفِيدُ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ فَلَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى، كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْأُولَى أَنْ يُقَالَ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الدَّيْنُ فِي الْمَرَضِ يُسَاوِي الدَّيْنُ فِي الصِّحَّةِ؛ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبِ الْمَعْلُومِ وَالْإِقْرَارِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ إِذَا أَفَادَ مُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ، فَقَدْ أَفَادَ مُسَاوَاتِهِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ بَيْنَ ذَيْنِكِ الدَّيْنَيْنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَرَادَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ: الْمُدَّعَى عَامٌّ لِمَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالدَّلِيلُ خَاصُّ، ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِحَالِ الْأَدْنَى عَلَى حَالِ الْأَعْلَى.
أَقُولُ: لَا حَاصِلَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِمُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَدْنَى دَيْنَيِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِأَعْلَى دَيْنَيِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابِ مَعْلُومَةٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ الشَّيْءِ إِلَى رُتْبَةِ الْأَدْنَى وُصُولُهُ إِلَى رُتْبَةِ الْأَعْلَى فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّنْبِيهُ بِالْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّنْبِيهِ بِمُسَاوَاةِ أَدْنَى دَيْنَيِ الْمَرَضِ وَهُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مُسَاوَاةِ أَعْلَى دَيْنَيِ الْمَرَضِ وَهُوَ الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ لِلدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي الصِّحَّةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ؛ إِذْ يَلْزَمُ مِنْ وُصُولِ الْأَدْنَى إِلَى رُتْبَةِ شَيْءٍ وَصُولُ الْأَعْلَى إِلَى رُتْبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، بِالْأَوْلَوِيَّةِ لَكِنَّهُ لَا يُجْدِي شَيْئًا هَاهُنَا؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي قُصُورِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَنْ إِفَادَةِ مُسَاوَاةِ دَيْنِ الْمَرَضِ لِلدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ عُمُومِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ مُسَاوَاةَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ لِدَيْنِ الصِّحَّةِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ أَصْلًا.
(وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ الذِّمَّةُ الْقَابِلَةُ لِلْحُقُوقِ)، وَهِيَ ذِمَّةُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَهِيَ فِي حَالَتَيِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ، فَاسْتَوَى دِينُ الْمَرَضِ وَدَيْنُ الصِّحَّةِ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي مَحِلِّهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ، وَإِذَا اسْتَوَيَا وُجُوبًا اسْتَوَيَا اسْتِيفَاءً، (وَصَارَ كَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ مُبَايِعَةً وَمُنَاكَحَةً)، أَيْ: صَارَ إِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ كَإِنْشَائِهِ التَّصَرُّفَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَذَلِكَ مُسَاوٍ لِتَصَرُّفِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، فَكَذَا هَاهُنَا.
(وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعْتَبَرُ دَلِيلًا إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ)، أَيْ: إِذَا تَضَمَّنَ إِبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ، كَمَا لَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ شَيْئًا، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمُرْتِهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ (وَفِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ ذَلِكَ)، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ؛ (لِأَنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ)، يَعْنِي: مَالَ الْمَرِيضِ. (اسْتِيفَاءً)، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الِاسْتِيفَاءِ؛ (وَلِهَذَا ذَلِكَ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ).
قَالَ صَاحِبٌ النِّهَايَةِ: أَيْ: فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ مُحِيطَةٌ بِمَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ أَصْلًا فِي الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ، انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute