للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ

هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ؛ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا مَنَعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ أَصْلًا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ وَبِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ، انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ؛ إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمَا: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الدُّيُونِ أَصْلًا بِمُقْتَضَى وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَلِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ أَصْلًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَعْنَىً لَغْوٌ يُنَاقِضُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ أَصْلًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ. فَالْوَجْهُ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَكِنْ لَمْ تُحِطْ بِمَالِهِ. وَأَمَّا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ فَيَمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ مُطْلَقًا، أَيْ: بِالثُّلُثِ وَبِمَا دُونَهُ، نَعَمْ يُمْنَعُ الْمَرِيضُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَصْلًا؛ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِتُعَلِّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ بَلْ لِتُعَلِّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهِ، فَالْمَنْعُ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ؛ وَلِهَذَا مُنِعَ إِنَّمَا يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ تَحَقُّقِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. ثُمَّ إِنَّ جُمْهُورَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ إِلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ، جَوَابًا عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ اسْتِوَاءِ حَالِ الصِّحَّةِ، وَحَالِ الْمَرَضِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ لَمَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، كَمَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُمَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ.

أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَا لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ؟ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَصْلًا فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ اسْتِوَاءُ حَالَتَيِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ لَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: كَانَ الْحَقُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ أَصْلًا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ؛ إِذْ يَتِمُّ الْجَوَابُ حِينَئِذٍ عَمَّا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ قَطْعًا، وَيَصِحُّ التَّفْرِيعُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِلَا غُبَارٍ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِقُصُورِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي التَّفْرِيعِ؛ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ بَدَلَ ذَلِكَ: وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِمْ، غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثُّلُثِ، لَكِنَّ فِيمَا قَالَهُ إِفْرَاطٌ، كَمَا كَانَ فِيمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ تَفْرِيطٌ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ التَّبَرُّعِ وَالْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثُّلُثِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ فِيمَا إِذَا أَحَاطَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَأَمَّا فِيمَا إِذَا لَمْ تُحِطِ بِهِ فَمُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ الْإِطْلَاقُ فَكَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ.

فَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ فِي تَنْقِيحِ الْكَلَامِ هَاهُنَا لِإِفَادَةِ تَمَامِ الْمَقْصُودِ مَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ: الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فِي الْمَرَضِ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلِمَ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ؟ قُلْنَا: اسْتِحْقَاقُ الْوَارِثِ الْمَالَ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، فَالِاسْتِحْقَاقُ يُضَافُ إِلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمَوْتُ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ شَاهِدَيِ النَّسَبِ قَبْلَ الْمَوْتِ إِذَا رَجَعَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ أَخَذَ الْمَالَ لَمْ يُضَمَّنَا شَيْئًا، فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَمْ يَجِبْ بِالْمَوْتِ بَلْ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ، (بِخِلَافِ النِّكَاحِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِنْشَاءِ النِّكَاحِ: يَعْنِي لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ؛ (لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ)، فَإِنَّ بَقَاءَ النَّفْسِ بِالتَّنَاسُلِ، وَلَا طَرِيقَ لِلتَّنَاسُلِ إِلَّا بِالنِّكَاحِ، وَالْمَرْءُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إِلَى الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَالصَّرْفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>