للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ فِي إِيثَارِ الْبَعْضِ إِبْطَالُ حَقِ الْبَاقِينَ، وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، إِلَّا إِذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ نَقَدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْبَيِّنَةِ.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَوْلُهُ: "لِمَا بَيَّنَّا"، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَوْلِهِ: "لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا".

أَقُولُ: إِنْ أَرَادَا أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا بَيَّنَّا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ، كَمَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ أَرَادَا أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً؛ لِكَوْنِ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ مُطْلَقًا مِثْلِ دِينِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَخْصُوصٌ بِالنِّكَاحِ، وَلَيْسَ كَثِيرٌ مِنْ أَسْبَابِ تِلْكَ الدُّيُونِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ قَطُّ، فَلَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ.

(وَلَوْ أَقَرَّ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِآخَرٍ)، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَيْنُ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً (لَمْ يَصِحَّ) إِقْرَارُهُ (فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ)، أَيْ: بِمَا أَقَرَّ بِهِ ذِكْرُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، وَمُفَادُهَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ فِي الْمَرَضِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فِيهِ، (وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.

ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا: (لِأَنَّ فِي إِيثَارِ الْبَعْضِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ) وَهُوَ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسَلَّمِ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَقْبُوضُ سَالِمٌ لِلْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَرُبَّمَا يَقْضِي دَيْنَ مَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ يُخَاصِمُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّصَرُّفُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَبْطُلُ حَقَّ غَيْرِهِ.

(وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ)، أَيْ: وَغُرَمَاءُ الصِّحَّةِ وَغُرَمَاءُ الْمَرَضِ الَّذِينَ كَانُوا غُرَمَاءَ فِي الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ إِيثَارِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْعِلَّةِ اشْتِرَاكُ الْكُلِّ وَتُسَاوِيهِمْ فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِ الْمَرِيضِ، (إِلَّا إِذَا قَضَى مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ)، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَقَوْلُهُ: فِي مَرَضِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي: قَضَى وَاسْتَقْرَضَ، فَالْمَعْنَى: إِلَّا إِذَا قَضَى فِي مَرَضِهِ مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ نَقْدَ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ)، أَيْ: نَقَدَ فِي مَرَضِهِ ثَمَنَ مَا اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ.

(وَقَدْ عُلِمَ) وُجُوبُهُ (بِالْبَيِّنَةِ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَضَاءِ وَالنَّقْدِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ الْقَاضِي فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ الْمَرِيضُ الْمُقْرِضَ وَالْبَائِعَ بِقَضَاءِ دِينِهِمَا وَيُسَلِّمَ الْمَقْبُوضَ لَهُمَا، وَلَا يُشَارِكْهُمَا فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، بَلْ إِنَّمَا حَوَّلَهُ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ يُعَدُّ لَهُ، وَكَانَ تَعَلُّقُ حَقِّهِمْ بِالْمَالِيَّةِ بِالصُّورَةِ وَالْمَالِيَّةِ لَمْ تَفُتْ بِالتَّحْوِيلِ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ: أَرَأَيْتَ لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّ بَدَّلَهُ؛ لِأَنَّ حَكَمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>