وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى حَالَةُ إِطْلَاقٍ وَهَذِهِ حَالَةُ عَجْزٍ فَافْتَرَقَا، وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ وَعُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَهَذَا الدَّيْنُ مِثْلُ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا،
وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى)، أَيْ: حَالَةُ الصِّحَّةِ (حَالَةُ إِطْلَاقٍ) لِلتَّصَرُّفِ، (وَهَذِهِ)، أَيْ: حَالَةُ الْمَرَضِ (حَالَةُ عَجْزٍ) عَنِ التَّصَرُّفِ. قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لَوْ قَالَ: حَالَةُ حَجْرٍ، لَكَانَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً بِالْإِطْلَاقِ (فَافْتَرَقَا)، أَيِ: افْتَرَقَ الْوَجْهَانِ أَوِ الْحُكْمَانِ، فَمَنَعَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ بِمَالِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْإِقْرَارُ فِي أَوَّلِ الْمَرَضِ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي آخِرِهِ، ثُمَّ إِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ أَفَادَ تَقْدِيمَ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الْمَعْرُوفَةُ الْأَسْبَابِ)، يَعْنِي: إِنَّمَا تُقَدَّمُ الدُّيُونُ اللَّازِمَةُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ؛ (لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا)، أَيْ: فِي ثُبُوتِ تِلْكَ الدُّيُونِ؛ (إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ)، يَعْنِي: أَنَّ ثُبُوتَهَا بِالْمُعَايَنَةِ وَالْأَمْرِ الْمُعَايَنِ لَا مَرَدَّ لَهُ، فَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فِي الْمَرَضِ.
(وَذَلِكَ)، أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابَ، (مِثْلُ: بَدَلِ مَالِ مُمَلِّكِهِ)، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ، (أَوِ اسْتَهْلَكَهُ)، أَيْ: أَوْ بَدَلَ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ، (وَعُلِمَ وُجُوبُهُ)، أَيْ: وُجُوبُ الْبَدَلِ (بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ)، أَيْ: بِغَيْرِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ بِأَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُهُ بِمُعَايَنَةِ الْقَاضِي أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، (أَوْ تُزَوُّجُ امْرَأَةٌ بِمَهْرٍ مِثْلِهَا)، هَذَا عَطْفٌ عَلَى بَدَلِ مَالٍ مَلَكَهُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْ مُهْرُ مِثْلِ امْرَأَةٍ تَزَوْجَهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابُ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ بِغَيْرِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ شَرْطٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْضًا؛ وَإِلَّا كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، فَلَا يَصِحُّ مِثَالًا لِمَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي هَذَا أَيْضًا لَا يَرَى فِي تَأْخِيرِهِ الْمُصَنِّفُ عَنْ قَوْلِهِ: وَعُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ وَجْهٌ وَجِيهٌ.
(وَهَذَا الدَّيْنُ)، يَعْنِي: الدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، (مِثْلُ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا)، أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ، أَعْنِي عَدَمَ التُّهْمَةِ فِي الثُّبُوتِ، كَمَا تَتَمَشَّى فِي الدَّيْنِ اللَّازِمِ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَايَنَ لَا مَرَدَّ لَهُ كَذَلِكَ تَتَمَشَّى فِي دَيْنِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا،
أَمَّا فِيمَا لَزِمَ فِي الصِّحَّةِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَايَنَ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَأَمَّا فِيمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَّةِ بِالْإِقْرَارِ فَبِنَاءً عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ، كَمَا فِي إِقْرَارِ الْمَرِيضِ هَذَا، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: قَوْلُهُ: "لِمَا بَيَّنَّا" إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: "إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ".
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ: أَعْنِي قَوْلَهُ: إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ لَا تَتَمَشَّى فِيمَا إِذَا ثَبَتَ دَيْنُ الصِّحَّةِ بِالْإِقْرَارِ؛ إِذِ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ لَيْسَ مِنَ الْمُعَايَنِ، فَلَا يَظْهَرُ بِهَا أَنْ لَا يُقَدَّمَ هَذَا الدَّيْنُ عَلَى دَيْنِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، يَعْنِي فِي النِّكَاحِ، وَلَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهِ فِي غَيْرِهِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: "لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا"، مَعَ قُرْبِهِ فِي الذِّكْرِ وَشُمُولِهِ لِلدَّيْنِ اللَّازِمِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ اللَّازِمِ بِسَبَبِ غَيْرِهِ جَمِيعًا، كَيْفَ لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ هَاهُنَا لِمَا بَيَّنَّا، فَيُصَارُ إِلَى تَوْزِيعِ قَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا إِلَى قَوْلِهِ: "لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهَا"، وَإِلَى قَوْلِهِ: فِي بَعِيدٍ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ