وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَحَقُ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ وَلِهَذَا تُقَدَّمُ حَاجَتُهُ فِي التَّكْفِينِ.
قَالَ (وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، وَصَارَ كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيٍّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ.
مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ، انْتَهَى. فَتَدَبَّرْ. (وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ)؛ إِذْ فِيهِ رَفْعُ الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ»، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
(وَحَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ) عَنِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا تُقَدَّمُ حَاجَتُهُ، أَيْ: حَاجَةُ الْمَيِّتِ (فِي التَّكْفِينِ) وَالتَّجْهِيزِ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ قَضَاءُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لَا يَتِمُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ، وَبَيْنَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ بِمُنَاكَحَتِهِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: قَضَاءُ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ يَكُونُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَاكَ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَالدَّيْنُ اللَّازِمُ فِي الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ تَحَقُّقًا، وَلَكِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَائِهِمَا.
وَأَمَّا إِذَا تَحَقَّقَا وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَائِهِمَا، فَلَا يَكُونُ الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ أَنْ يُرْفَعَ بِهِ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَدْيُونِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، كَمَا مَرَّ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ عِنْدَ تَحَقُّقِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ التَّرِكَةِ بِمَا سِوَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَحُولَانِ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يُرْفَعَا بِقَضَائِهِمَا، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَوْنُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنِ الْإِيرَادِ الْمَزْبُورِ بِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِيمَا إِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الصِّحَّةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ حَتَّى يَكُونَ قَضَاؤُهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ.
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَدَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، وَبَيْنَ مَا لَزِمَ بِنِكَاحِهِ عَدَمُ ظُهُورِ ثُبُوتِ الْأَوَّلِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ وَظُهُورِ ثُبُوتِ الثَّانِي؛ إِذِ الْمُعَايَنُ لَا مَرَدَّ لَهُ لَا عَدَمَ كَوْنٍ الْأَوَّلِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَكَوْنِ الثَّانِي مِنْهَا، كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمَوْرِدُ الْإِيرَادِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا، وَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ فَتَأَمَّلَ.
(قَالَ)، أَيْ: الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ)، سَوَاءً أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ بِدَيْنٍ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ: (إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ)، أَيْ: فِي إِقْرَارِهِ هَذَا (بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ)، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: وَأَحْمَدُ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي هَاشِمٍ.
(وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِحُّ)، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْعَطَاءِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ إِذَا لَمْ يُتَّهَمُ، وَيَبْطُلُ إِذَا اتُّهِمَ كَمَنْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ عَمٍّ فَأَقَرَّ لِابْنَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ أَقَرَّ لِابْنِ عَمِّهِ قُبِلَ؛ إِذْ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَزِيدَ فِي نَصِيبِهِ، وَيُتَّهَمُ أَنْ يَزِيدَ فِي نَصِيبِهَا، دَلِيلُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّهُ)، أَيْ: لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ (إِظْهَارُ حَقٍّ ثَابِتٍ)، أَيْ: إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لَازِمٍ عَلَيْهِ؛ (لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ)، أَيْ: فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ حَالَ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهُ حَالُ تَدَارَكِ الْحُقُوقِ، فَلَا يَجُوزُ أَنَّ يَثْبُتَ الْحَجْرُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ، (وَصَارَ) هَذَا الْإِقْرَارُ (كَالْإِقْرَارِ لِأَجْنَبِيِّ وَبِوَارِثٍ آخَرَ)، نَحْوُ: أَنْ يُقِرَّ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ تَضَمَّنَ وُصُولَ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ إِلَيْهِ، (وَبِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْوَارِثِ)، أَيْ: وَكَالْإِقْرَارِ بِاسْتِهْلَاكِ وَدِيعَةٍ مَعْرُوفَةٍ لِلْوَارِثِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ، وَصُورَةُ ذَلِكَ عَلَى