للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَا قَوْلُهُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ»

مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: رَجُلٌ أَوْدَعَ أَبَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي حَالِ صِحَّةِ الْأَبِ أَوْ مَرَضِهِ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: اسْتَهْلَكْتُهَا، ثُمَّ مَاتَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ إِقْرَارَ الْمَرِيضِ جَائِزٌ وَالْأَلْفُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِلِابْنِ الْمُقَرِّ لَهُ خَاصَّةً.

قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْ إِقْرَارَهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا يُفِيدُ رَدُّ إِقْرَارِهِ؛ وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا رُدَّ لِلتُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْمُعَايَنَةِ، انْتَهَى.

أَقُولُ: جَوَابُهُمُ الثَّانِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْمُعَايَنَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا هُوَ إِيدَاعُ الْوَارِثِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ لَا اسْتِهْلَاكُ الْمُوَرِّثِ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الِاسْتِهْلَاكُ بِإِقْرَارِ الْمُوَرِّثِ لَا غَيْرَ، كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ، فَبَقِيَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَالصَّوَابُ مِنْ جَوَابِهِمْ هُوَ الْأَوَّلُ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إِنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ لَا لِخَلَلٍ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا، أَلَا يُرَى أَنَّا إِذَا كَذَّبْنَاهُ فَمَاتَ وَجَبَ الضَّمَانُ أَيْضًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا، انْتَهَى.

وَكَأَنَّ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ مِنَ الشُّرَّاحِ اغْتَرُّوا بِمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا، فَفَهِمُوا أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهِ ثُبُوتُهُ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وَجْهُ ذَلِكَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ صَدَقَ فِي إِقْرَارِهِ أَمْ كَذَبَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مُجْهَلًا، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ التَّنْوِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُصِبْ أَيْضًا فِي تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ؛ حَيْثُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ مَعَ تَعْلِيلِهَا الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ عِنْدَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا لَهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنْ يَذْكُرَ مَضْمُونَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ.

(وَلَنَا قَوْلُهُ : «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ»)، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ نُوحِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبَانَ بْنِ ثَعْلَبٍ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ». قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ : «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلَا إِقْرَارَ لَهُ بِالدَّيْنِ»، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرُ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ، انْتَهَى.

وَقَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِيهِ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، انْتَهَى.

أَقُولُ: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالْأَثَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ بِالدَّيْنِ بِدُونِ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ، وَمَسْأَلَتُنَا تَعُمُّ بُطْلَانَ إِقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ وَبِالْعَيْنِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إِفَادَةِ تَمَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>