وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلًا، فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِ الْبَاقِينَ، وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ،
الْمُدَّعِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى إِفَادَةِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْآتِي كُلِّيَّةَ الْمُدَّعِي، فَتَأَمَّلْ. (وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ)، أَيِ: الْمَرِيضُ (مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى الْوَارِثِ)، كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ لَهُ (أَصْلًا)، أَيْ: بِالْكُلِّيَّةِ، (فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ)، أَيْ: فَفِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ (إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ)، أَيْ: إِبْطَالُ حَقِّ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَهُوَ جَوْرٌ عَلَيْهِمْ فَيُرَدُّ، وَتَذَكَّرْ هَاهُنَا مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنِ الْإِشْكَالِ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ بِوَارِثٍ آخَرَ وَجَوَابَهُ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ.
فَإِنْ قِيلَ: حَقَّ الْوَرَثَةِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَتِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فَقَدْ ظَهَرَ حَاجَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ خِرَافًا، وَبِالْمَرَضِ تَزْدَادُ جِهَةُ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْبَاعِثَ الشَّرْعِيَّ يَنْضَمُّ إِلَى الْعَقْلِيِّ فَيَبْعَثُهُ عَلَى الصِّدْقِ.
قُلْنَا: الْإِقْرَارُ لِلْوَارِثِ إِيصَالُ نَفَعٍ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَوُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يُعَرَفْ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيثَارَ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ حَيْثُ عَجَزَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَوَقَّفَ صِحَّتُهُ عَلَى رِضَا الْبَاقِينَ، دَفَعَا لِلْوَحْشَةِ وَالْعَدَاوَةِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهِمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِيصَالَ النَّفْعِ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ إِنْشَاءً لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إِقْرَارِهِ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ.
(وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ) عَنِ الْمَالِ لِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ الْمُوجِبِ لِانْتِهَاءِ الْآمَالِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْإِقْرَارُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فِيهِ يُورِثُ تُهْمَةَ تَخْصِيصِهِ، (وَالْقَرَابَةُ) تَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا. (سَبَبُ التَّعَلُّقِ)، أَيْ: سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْأَقْرِبَاءِ بِالْمَالِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ يَمْنَعُ تَخْصِيصَ بَعْضِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِلَا مُخَصَّصٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي هُوَ مُخْتَارُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ … إِلَخْ. دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: قَوْلُهُ: "وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ" عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلِهَذَا يُمْنَعُ … إِلَخْ". فَإِنَّهُ كَانَ دَلِيلًا إِنِّيًا، وَهَذَا دَلِيلٌ لِمَا انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ يَأْبَى عَنْ ذَلِكَ جِدًّا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ مُقَدِّمَةٌ لِدَلِيلِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَوْلَهُ: "فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ"، مُقَدِّمَةٌ أُخْرَى لَهُ مَرْبُوطَةٌ بِالْأُولَى، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةَ الِاسْتِغْنَاءِ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعِ، لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ تَوْسِيطُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ دَلِيلَيِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، نَعَمْ يَصْلُحُ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ التَّعَلُّقِ؛ لِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ لَوْلَا تَوْسِيطُ قَوْلِهِ: "فَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ بِهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ".
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي: وَلِأَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْكُلِّ بِمَا لَهُ فَيُرَدُّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا؛ لَأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ حَالَةُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَالِهِ لِظُهُورِ آثَارِ الْمَوْتِ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ لِانْتِهَاءِ آمَالِهِ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى الْآخِرَةِ فَيَظْهَرُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ حَقُّ أَقْرِبَائِهِ؛ وَلِهَذَا مُنِعَ مِنَ التَّبَرُّعِ عَلَى وَارِثِهِ أَصْلًا فَلَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ إِبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ، انْتَهَى. وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَلِأَنَّ فِيهِ إِيثَارُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute