قَالَ: (فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي حَقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا (فَنُجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إِذَا كَانَ عَقَارًا، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ، وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ) لِأَنَّهَا هِيَ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ دُونَ جَهَالَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ (وَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ يُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَاتِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا
الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا رَشْوَةٌ. قَالَ الشُّرَّاحُ: لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ دَفْعِ الرَّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» عَامٌّ. لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَمَا إِذَا دَفَعَ الرَّشْوَةَ حَتَّى أَخْرَجَ الْوَالِي أَحَدَ الْوَرَثَةِ عَنِ الْإِرْثِ، وَأَمَّا إِذَا دَفَعَ الرَّشْوَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ لِلدَّافِعِ، انْتَهَى. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ عُمُومُ اللَّفْظِ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ فِي أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ دَفْعَ الْحَرَجِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إِنْ وَقْعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ. . .) إِلَخْ، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ ضَابِطَهُ يَعْرِفُ بِهَا أَنَّهُ عَلَى أَيِّ عَقْدٍ يَحْمِلُ.
أَقُولُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الضَّابِطَةُ بِتَامَّةٍ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ إِقْرَارٍ قَدْ يَقَعُ عَنْ مَنَافِعَ بِمَالٍ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ، كَمَا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً، فَمَاتَ وَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ السُّكْنَى فَصَالَحَهُ الْوَرَثَةُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا أَوْ عَلَى رُكُوبِ دَابَّةٍ شَهْرًا، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْآتِي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الضَّابِطَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا يَقَعُ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مَنْفَعَةٍَ كَالصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمَّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا أَيْضًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ أَيْضًا فِي هَاتِيكَ الضَّابِطَةِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى عَقْدِ الْبَيْعِ وَلَا فِي مَعْنَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ، بَلْ هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute