وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا؛ إِذِ الْمَالُ وِقَايَةُ الْأَنْفُسِ وَدَفْعُ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَمْرٌ جَائِزٌ.
الْمُطْلَقُ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ؛ إِذِ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَادَةِ، فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إِلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَقَدْ حَلَّ بِالصُّلْحِ. كَذَا فِي الْكَافِي.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: وَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً لَكَانَ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لَأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ، فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إِلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ، وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ، وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنَعُهُ قَبْلَهُ، وَحَلَّ بَعْدَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِعَيْنِهِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ؛ إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً لَكَانَ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لَأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَمْلِ آخِرِ الْحَدِيثِ عَلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالِ لِعَيْنِهِ خَاصَّةً، لَا فِي حَمْلِهِ عَلَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ خَاصَّةً؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ آخِرُ الْحَدِيثِ عَلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالِ لِعَيْنِهِ خَاصَّةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَحْمِلَ آخِرَهُ عَلَى مَا يَعُمُّ الْحَرَامَ لِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْحَلَالَ لِغَيْرِ عَيْنِهِ أَيْضًا. فَمَدَارُ التَّأْوِيلِ وَالْحَمْلِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَإِطْلَاقُهُ دُونَ لَفْظِ الصُّلْحِ. فَالْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا يَعُمُّ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ لِعَيْنِهِمَا وَلِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ كَالصُّلْحِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الِاشْتِمَالِ عَلَى إِحْلَالِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ بِأَنْ قَالَ: هَذَا يَخْتَصُّ بِالدَّيْنِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَرَيَانِهِ فِي الْعَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْعَمَلِ بِهِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، كَمَا سَيَجِيءُ، انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنِ التَّحْصِيلِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ إِلَّا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي عَدَمُ جَوَازِهِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَصْلًا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ مَشْرُوطًا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا؛ إِذْ لِجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ، وَسَيَأْتِي كِلَا الطَّرِيقَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَعَلَى كِلَيْهِمَا يَجْرِي قَوْلُهُ: لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ أَيْضًا). (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَدَفْعُ الرَّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ أَمْرٌ جَائِزٌ)
هَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ جَوَازٍ الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لِلشَّافِعِيِّ مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute