وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِمَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ حَلَالًا عَلَى الدَّافِعِ حَرَامًا عَلَى الْآخِذِ، فَيَنْقَلِبُ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُ الْمَالَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهَذَا رِشْوَةٌ. وَلَنَا مَا تَلَوْنَا، وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ
الصُّلْحِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَيْهَا إِذَا أَنْكَرَتْهُ فَصَالَحَتْ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ. وَبِهِ صَرَّحَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ عُقَيْبِ هَذَا، انْتَهَى.
وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْفَصْلِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي وَشَرْحِهِ كَذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا لَا يَرُدُّ عَلَيْنَا سُؤَالُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِقَوْلِهِمْ: إِذَا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ فَصَالَحَتْ عَلَى مَالٍ لَا يَجُوزُ، وَلَئِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ، كَمَا أَوْرَدُوهَا فِي نَسْخِ طَرِيقَةِ الْخِلَافِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَعَ إِنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِمَا رَوَيْنَا. . .) إِلَخْ. قُلْتُ: كَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِآخِرِ مَا رَوَيْنَا لَا أَنَّ أَوَّلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا مَا تَلَوْنَا وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا. . .) إِلَخْ، كَرَّرَ ذِكْرَهُمَا تَأْكِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ. . . إِلَخْ. وَإِلَّا لَكَفَى هَاهُنَا بَيَانُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَعَ بَيَانِ أَنَّ دَفْعَ الرِّشْوَةِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ جَائِزٌ فِي الشَّرْحِ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَتِمُّ بِبَيَانِهِمَا.
أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا إِشْكَالٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا: وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ دَلِيلًا لَنَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ آخِرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ آخِرَهُ مُسْتَثْنًى مِنْ أَوَّلِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَأَخَّرَ حُكْمُ صَدْرِ الْكَلَامِ عَنْ إِخْرَاجِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِدُونِ آخِرِهِ، بَلْ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى إِلَّا بِمَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: " وَتَأْوِيلُ آخِرِهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ. . . " إِلَخْ، مُتَّصِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَأَوَّلُ مَا رَوَيْنَا.
فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ لَنَا أَوَّلَ مَا رَوَيْنَاهُ مَعَ تَأْوِيلِ آخِرِهِ، فَالدَّلِيلُ مَجْمُوعُ الْحَدِيثِ بِمُلَاحَظَةِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ لَفْظَةَ أَوَّلَ هَاهُنَا مَعَ كَوْنِهَا زَائِدَةً لَا فَائِدَةَ لَهَا مُوهِمَةٌ لِمَا يُخِلُّ بِالْكَلَامِ وَيَضُرُّ بِالْمَقَامِ، كَمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ تُطْرَحَ مِنَ الْبَيْنِ.
(قَوْلُهُ: وَتَأْوِيلُ آخِرهِ أَحَلَّ حَرَامًا لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأُ الضَّرَّةَ) وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَالْحَلَالُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute