«كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»
بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ فَمَا مَعْنَى حَمْلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الصِّفَةَ فِي " لِقَوْلِهِ لِمُطْلَقٍ "، هُوَ الْمُطْلَقُ لَا الْإِطْلَاقُ وَالْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَلَا يُجْدِي حَدِيثُ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ شَيْئًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى الْمُسَامَحَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ صَاحِبٌ الْعِنَايَةِ: فَإِنَّ مَنْعَ الْإِطْلَاقِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقٍ صَلَحَ الزَّوْجَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، فَكَانَ لِلْعَهْدِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَبِأَنَّهُ ذُكِرَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصَالِحَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ فَكَانَ عَامًّا؛ وَلِأَنَّهُ وَقَعَ قَوْله تَعَالَى أَنْ يُصَالِحَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَكَانَ مُسْتَقْبَلًا، وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ كَانَ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ بَلْ جِنْسُهُ، انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِتَامَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ مَنْعُ عُمُومِ اللَّفْظِ بِحَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ عَلَى الْعَهْدِ. فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ خَاصًّا وَإِنَّمَا يُجْدِي نَفْعًا لَوْ سَلَّمَ عُمُومَ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ وَأُرِيدَ تَخْصِيصُهُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ كَانَ فِي الْحَالِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالْإِخْبَارِ بِهَذَا الْخَبَرِ كَانَ فِي الْحَالِ، أَيْ: فِي حَالِ وُرُودِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ تَحَقُّقُ مَدْلُولِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَلَا يَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الْأَمْرُ الَّذِي يَحْدُثُ غَدًا خَيْرٌ، فَلَا شَكَّ أَنَّ تَكَلُّمَكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَإِخْبَارُكَ بِهِ كَائِنٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَاتِّصَافُهُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ بَلْ جِنْسُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ خَيْرٌ كَانَ فِي الْحَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَالصَّوَابُ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَفِي سَائِرِ الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنَ الْأَسْرَارِ.
وَوَجْهُ كَوْنُ الصُّلْحِ عَامًّا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّعْلِيلِ هُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ الَّذِي عُلِّلَ فِيهِ، بَلْ أَيْنَمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ يَتْبَعُهَا الْحُكْمُ، كَذَا قَالُوا، وَهُوَ التَّقْرِيرُ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا التَّقْرِيرُ الْمُطَابِقُ لِقَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ خَارِجًا مَخْرَجَ الْكُبْرَى مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنَّ هَذَا صُلْحٌ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَكُلِّيَةُ الْكُبْرَى شَرْطٌ لِإِنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْمِيزَانِ.
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَيْضًا؛ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيلًا لَأَبْدَلَ الْفَاءَ بِالْوَاوِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ الْإِبْدَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ تَعْلِيلًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَعْلِيلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّعْلِيلِ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: صَالِحُوا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ. وَفَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، كَمَا يُقَالُ: صَلِّ وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى مِنَ الدَّلِيلِ وَالصُّغْرَى مَطْوِيَّةٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا مَرَّ، وَأَدَاةُ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ وَالْفَاءِ إِذَا ذُكِرَتْ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى أَوَّلِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الصُّغْرَى دُونَ الْكُبْرَى، فَلَا يَلْزَمُ الْإِبْدَالُ هَاهُنَا أَصْلًا، تَدَبَّرْ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَاهُ، يَعْنِي الْإِطْلَاقَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، وَلَكِنْ صَرْفُهُ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَصُلْحُ الْمُودِعِ وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى قَذْفًا عَلَى آخَرَ وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ لَا يَجُوزُ، فَيُصْرَفُ إِلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: وَصُلْحُ مَنِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَتْ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ خَبْطٌ؛ إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَتَّى الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ، فِيمَا سَيَأْتِي، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ، فَكَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ. ثُمَّ أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ: إِنَّ لِعَدَمِ الْجَوَازِ رِوَايَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِهَا، وَالسُّؤَالُ الْمَزْبُورُ مِمَّا أَوْرَدَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ فَهُمْ أَخَذُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَوَاتِهَا بِمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِغَرَضِهِمْ. وَالْحَنَفِيَّةُ أَجَابُوا عَنْهُ تَارَةً بِمَنْعِ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، وَأُخْرَى بِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ: اكْتَفَى بِالثَّانِي وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَنْعِ، وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَتَعْرَّضَ لَهُمَا مَعًا حَتَّى قَالَ فِي الْجَوَابِ هَاهُنَا: عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ عَدَمَ جَوَازِ