قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي إِذَا قَالَ صَالَحْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ تَدْفَعُهَا إِلَيَّ غَدًا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إِلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ عَلَى حَالِهِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ التَّقْيِيدِ فَيُعْمَلُ بِهِ. وَالثَّالِثُ إِذَا قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا وَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا، وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ،
النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِمَّا يَتَقَيَّدُ كَالْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ: وَالْإِبْرَاءُ يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ كَالْحَوَالَةِ؛ فَإِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ شَرَحَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هَذَا الْمَقَامَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى كَوْنِ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ سِوَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ. وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّ مَا صَوَّرَهُ مِنَ الْمَعْنَى لَا يُسَاعِدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَلْ يُنَاسِبُ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، وَقَوْلَهُ: "فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ"، مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ كَوْنَ قَوْلِهِ: كَمَا فِي الْحَوَالَةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: " وَالْإِبْرَاءُ"، مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّمَا الْمُسَاعِدُ لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَمَّا كَانَ فَائِتًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ شَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى أَنَّ فَوَاتَ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَرْعٌ لِصِحَّةِ تَقَيُّدِ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ بِأَصْلٍ مُسْتَقِلٍّ فِي الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْحَوَالَةِ بِذَلِكَ دُونَ أَصْلِهِ، تَبَصَّرْ تَرَشَّدْ.
(قَوْلُهُ: قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، أَيْ: وُجُوهٌ خَمْسَةٌ: فَوَجْهُ الْحَصْرِ فِيهَا هُوَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ بِأَدَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُ بَقَاءُ الْبَاقِي عَلَى الْمَدْيُونِ صَرِيحًا عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ أَمْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَالْوَجْهُ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ أَمْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ فَالْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ بَدَأَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ فَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَدَأَ فَالْوَجْهُ الْخَامِسُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ وُجُوهَ الْحُصْرِ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ.
أَقُولُ: فِيهِ إِشْكَالٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ الثَّانِي قِسْمًا مِمَّا بَدَأَ بِالْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْدَأْ فِيهِ بِالْأَدَاءِ، بَلْ بَدَأَ فِيهِ بِالْمُصَالَحَةِ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ الرَّابِعَ قِسْمًا مِمَّا لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِالْأَدَاءِ، كَمَا تَرَى. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ. أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْبَدْءَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَدَاءِ صُورَةً إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُ: أَدِّ إِلَيَّ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إِلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ عَلَى حَالِهِ، فَالْمُرَادُ بِأَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَنْ بَدَأَ بِهِ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَيَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ وُجُوهِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ يَتِمُّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَاصِلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute