وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا. قَالَ (وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَالرِّبْحُ كَالْأَجْرِ لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاقْتِضَاءُ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ،
(قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا)، وَفَى بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا، فَكَلِمَةُ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ مِنْ ذَلِكَ: يَعْنِي لَا يَنْعَزِلُ الْمَضَارِبُ بِالْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ إِذَا كَانَ الْمَالِ عُرُوضًا بَلْ يَبِيعُهَا بَعْدَ الْعَزْلِ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ الْقَصْدِيِّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عَمَلِ الْعَزْلِ فِيهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ إِبْطَالُ حَقَّ الْمُضَارِبِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذَيْنِكِ الْعَزْلَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ ضَمِيرَ الْمُؤَنَّثِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا رَاجِعٌ إِلَى الْعُرُوضِ، أَيْ: وَنَحْوُ الْعُرُوضِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالنَّقْدُ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي. وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَقَالَ: وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا مَا إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا ثُمَّ بَاعَ الْمَضَارِبُ الْعُرُوضَ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا. وَالضَّمِيرُ فِي " وَنَحْوُهَا " عَلَى هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَنِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِرَفْعِ الْوَاوِ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ابْتِنَائِهِ عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مُخْتَلٌّ مِنْ حَيْتُ الْمَعْنَى، أَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الثَّانِيَةِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ نَحْوُ الْمَوْتِ إِنَّمَا هُوَ اللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا صَرِيحًا فِي تِلْكَ النُّسْخَةِ بِقَوْلِهِ: وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَلَمْ يُبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ مَحَلٌّ؛ لِأَنْ يُقَالَ: وَنَحْوُ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْأَوْلَى فَلِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَجَ الْمَوْتَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا؛ حَيْثُ قَالَ: وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَنَحْوُهَا، مَا إِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نَحْوَ الْمَوْتِ وَهُوَ بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْعِ الْعُرُوضِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِلْمُضَافِ حُكْمَ الْمُؤَنَّثِ بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ بِجَرِّ الْوَاوِ.
أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ تَعَسُّفًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ رَكِيكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنْ يَجُوزَ لِلْمُضَارِبِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ تَصَرُّفٌ آخَرُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ نَحْوَ تَصَرُّفِ بَيْعِ الْعُرُوضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْعُرُوضِ عَلَى مَعْنًى فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَفَى بَيْعِ نَحْوِ الْعُرُوضِ، كَمَا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالْمَالُ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهَا نَحْوُ الْعُرُوضِ فِي أَنَّ الْمَضَارِبَ لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا أَبْعَدَ الِاحْتِمَالَاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ لَمْ يُلْزِمْهُ الِاقْتِضَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ مَحْضٌ، وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْكَفِيلِ فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَيُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَتَأَمَّلْ، اهـ.
أَقُولُ: هَذَا النَّقْضُ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ الْغَيْرَ الْمُلْتَزِمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ، وَالْكَفِيلُ مُلْتَزِمٌ؛ لَأَنْ يُطَالَبَ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِهِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فِي الْعُقُودِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ وَالْكَفَالَةُ عِقْدٌ لَازِمٌ عَلَى مَا عُرِفَ أَيْضًا فِي مَحَلِّهِ فَلَا انْتِقَاضَ. وَلَئِنْ سُلِّمَ إِطْلَاقُ الْكَلَامِ هَاهُنَا فَهُوَ مَجْرَى عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ وَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، فَلَا ضَيْرَ فِي خُرُوجِهِ؛ إِذِ الْقِيَاسُ تُرِكَ فِيهِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ فِيمَا عَدَاهُ فَتَأَمَّلْ.