. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ وَفِي الْأَمَانَةِ لَا يَبْرَأُ بَعْدَ الْخِلَافِ. هَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ بَدْرِ الدِّينِ الْكُرْدَرِيِّ إِلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ: قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ ﵀: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَالْوَدِيعَةُ خَاصَّةٌ وَالْأَمَانَةُ عَامَّةٌ، وَحَمْلُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ صَحِيحٌ دُونَ عَكْسِهِ: فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبِ إِنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ غَيْرِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ إِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ فِي الْأَمَانَةِ، إِلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ وَالْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّ التَّقْرِيرَ الْمَسْفُورَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ تَبَايُنٌ لَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَإِنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ فِي الْأُولَى الْقَصْدُ وَفِي الْأُخْرَى عَدَمُ الْقَصْدِ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَادَّةٍ أَصْلًا، وَكَذَا جُعِلَ حُكْمُ الْأُولَى أَنْ يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَحُكْمُ الْأُخْرَى أَنْ لَا يَبْرَأَ عَنِ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، وَهُمَا مُتَنَاقِضَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّبَايُنُ، وَحَمْلُ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنَ عَلَى الْآخَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ قَطْعًا فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَالْأَمَانَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ، كَمَا إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فِي ثَوْبٍ فَأَلْقَتْهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ حَمْلُ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، اهـ كَلَامُهُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إِنَّ الْأَمَانَةَ مُبَايِنٌ لِلْوَدِيعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهُ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوَدِيعَةِ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ، اهـ.
أَقُولُ: قَدْ كَانَ لَاحَ لِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ كَوْنِ الْوَدِيعَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَايِنًا لِلْأَمَانَةِ مَعَ كَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ؛ إِذِ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُودَعِ، وَلَكِنْ دَفَعْتُهُمَا مَعًا بِحَمْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ هُوَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْحِفْظِ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ التَّسْلِيطِ عَلَى الْحِفْظِ فَيَكُونُ حَمْلُ نَفْسِ التَّسْلِيطِ عَلَى الْوَدِيعَةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، فَلَا يُنَافِي هَذَا أَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ فِي الْحَقِيقَةِ مَا يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورَانِ الْمَزْبُورَانِ مَعًا.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّوْجِيهَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ تَصْحِيحًا لِكَلِمَاتِ ثِقَاتِ النَّاظِرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّ ذَيْنِكَ الْمَحْذُورَيْنِ يَرُدَّانِ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ: فَالْوَدِيعَةُ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ أَمَانَةً بِاسْتِحْفَاظِ صَاحِبِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَصْدًا، وَالْأَمَانَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَشَايِخِ. بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا مِنْ أَنَّ الْأَمَانَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَدِيعَةِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْوَدِيعَةِ دُونَ الْأَمَانَةِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهَا كَاللُّقَطَةِ، فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا، وَكَذَا إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْ ثَوْبًا فِي دَارِ إِنْسَانٍ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: "مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ"، مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْمُقِرِّ لَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: "هُنَاكَ"، حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْدَعْتُهَا كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هُنَاكَ فَتُدَبَّرْ. ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَنَسَبَهُ إِلَى الْإِمَامِ بَدْرِ الدِّينِ الْكُرْدَرِيِّ، كَمَا مَرَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى مِنَ الْجَوَابِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَفْظُ الْأَمَانَةِ صَارَ عَلَمًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَانَ قَوْلُهُ: "هُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ"، أَيْ: غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى أَنَّ لَفْظَ الْأَمَانَةِ يَنْسَحِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا ضَمَانَ فِيهَا، وَأَرَادَ بِالْوَدِيعَةِ مَا وُضِعَ لِلْأَمَانَةِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَا مُتَغَايِرَيْنِ فَصَحَّ إِيقَاعُهُمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ مَعْنَى "غَيْرُ مَضْمُونٍ" لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ: "إِذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ لِلْقَطْعِ بِقُبْحٍ"، أَنْ يُقَالَ: الْوَدِيعَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُودَعِ إِذَا هَلَكَتْ لَمْ تَضْمَنْ لِكَوْنِ الثَّانِي مُسْتَدْرَكًا. وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِوَجْهٍ آخَرَ؛ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ وَفِيهِ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ مَا وُضِعَ لِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ: عَلَمٍ هَذَا مِنْ أَقْسَامِ الْأَعْلَامِ، اهـ كَلَامُهُ.