وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ثَلَاثَةٌ اسْتَوْدَعُوا رَجُلًا أَلْفًا فَغَابَ اثْنَانِ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَهُ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْمُخْتَصَرِ. لَهُمَا أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ مَا سَلَّمَ إِلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ، وَهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا يُؤْمَرُ هُوَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمُفْرَزِ وَحَقِّهِ فِي الْمُشَاعِ، وَالْمُفْرَزُ الْمُعَيَّنُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَلَا يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ إِلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ دَفْعُهُ قِسْمَةً بِالْإِجْمَاعِ،
صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي صُورَةِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ التَّفْصِيلَ فِي صُورَةِ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَوْ إِنْ عَيَّنَ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ: فَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مَخُوفًا وَلَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ ضَمِنَ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ السَّفَرِ إِنْ سَافَرَ بِأَهْلِهِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ سَافَرَ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَهَا فِي أَهْلِهِ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِيخَانَ، اهـ، وَتَحْرِيرِ صَاحِبَيِ الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَا: هَذَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْمَالِكُ الْمِصْرَ لِلْحِفْظِ فِيهِ بَلْ أَطْلَقَ فَإِنْ عَيَّنَ الْحِفْظَ فِي الْمِصْرِ فَسَافَرَ إِنْ كَانَ سَفَرًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ سَفَرًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْحِفْظُ فِي الْمِصْرِ مَعَ السَّفَرِ بِأَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُتْرَكَ وَاحِدًا مِنْ عِيَالِهِ مَعَ الْوَدِيعَةِ فِي الْمِصْرِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، اهـ.
وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَخَلَطَ الْكَلَامَ وَأَفْسَدَ مَعْنَى الْمَقَامِ. (قَوْلُهُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: ثَلَاثَةٌ اسْتَوْدَعُوا رَجُلًا أَلْفًا فَغَابَ اثْنَانِ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَهُ ذَلِكَ). قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِيَدُلَّ بِوَضْعِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: "وَدِيعَةُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ"؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْأَلْفُ وَهُوَ مَوْزُونٌ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ إِذْ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يُشْعِرُ بِحَصْرِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا يُقْسَمُ حَتَّى يَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ هُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْأَلْفُ وَهُوَ مَوْزُونٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَلْفَ إِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ، كَيْفَ وَلَوْ أَفَادَ بِذَلِكَ الْحَصْرَ لَكَانَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ لِلْمَكِيلِ أَصْلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مَوْزُونٌ، وَلَا لِلْمَوْزُونِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْأَلْفِ فَيَفُوتُ الْمَطْلُوبُ. وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الْكَشْفِ: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ مَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ: الْقَاضِي لَا يَأْمُرُ الْمُودَعَ بِالدَّفْعِ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَأْمُرُ الْمُودَعَ بِالدَّفْعِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ دِيَانَةً، فَلَمَّا قَالَ فِي الْجَامِعِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ
وَفَائِدَةٌ أُخْرَى أَنَّ رِوَايَةَ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ فِي اثْنَيْنِ وَرِوَايَةَ الْجَامِعِ فِي الثَّلَاثَةِ، فَلَوْلَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ لَكَانَ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولَ: نَصِيبُ الْوَاحِدِ الْحَاضِرِ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَقَلُّ مِنْ نَصِيبِ الْغَائِبَيْنِ فَيَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا وَيُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُودَعِ، فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَاضِرِ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَهْلَكًا وَلَا تَبَعًا فَلَهُ أَخْذُهُ، فَتَبَيَّنَ بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى نَظَرٌ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنْ لَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ عِنْدَ أبي حنيفة، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ تَوَهُّمَ قَائِلٍ: إِنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قِلَّةُ نَصِيبِ الْحَاضِرِ، بَلْ يُؤَيِّدُهُ لِمُسَاعَدَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ رِوَايَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْحَاضِرِ لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ نَصِيبِ الْغَائِبِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَلَا مَجَالَ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ عَدَمِ دَفْعِ نَصِيبِ الْحَاضِرِ إِلَيْهِ قِلَّةَ نَصِيبِهِ فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ الْأُخْرَى إِنَّمَا تَظْهَرُ لَوْ ذُكِرَتْ رِوَايَةُ كِتَابِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ ذِكْرِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْكِتَابِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ تِلْكَ الْفَائِدَةِ عَلَى قَوْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute