للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ، وَضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ.

قَالَ (وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةٌ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا.

وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى

بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ. اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ تَحْرِيرَهُ هَذَا فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ مُخْتَلٌّ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي فَصَارَ رَاجِعٌ إلَى الْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: فَصَارَ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ فَيَلْزَمُ تَشْبِيهُ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِعِنَايَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ، وَفِي قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ، فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِهِ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُلَابَسَةِ الْعَقْدِ: أَيْ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ بِأَنْ كَانَ مِنْ مُبَادِيهِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمَأْخُوذِ بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَيَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ بِالْقَبْضِ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ، إذْ الْقَبْضُ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَكَذَا بِجِهَتِهِ اهـ.

ثُمَّ أَقُولُ: لَا حَاجَةَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا إلَى مَا ارْتَكَبَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ التَّحْرِيرِ الرَّكِيكِ الْمُشْعِرِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا عَرَفْت، بَلْ لَهُ مَحْمَلَانِ صَحِيحَانِ سَالِمَانِ عَنْ شَائِبَةِ الْخَلَلِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعَقْدِ بِالْمُبَاشَرَةِ لِبَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ مِنْ أَخَذَ فِيهِ بِمَعْنَى شَرَعَ فِيهِ لَا مِنْ أَخَذَهُ.

وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ: أَيْ الْمَأْخُوذَ لِأَجْلِ الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ " فِي " فِي قَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ وَقَوْلِهِ «إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا» عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ، فَالْأَخْذُ حِينَئِذٍ مِنْ أَخَذَهُ بِمَعْنَى تَنَاوَلَهُ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا.

أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً جُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ إذْ الْمَالِكُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ مَجَّانًا اهـ. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا أَصْلًا، إذْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَخْذِ فِي الْعَقْدِ حُكْمُ الْعَقْدِ تَحَقُّقُ الْعَقْدِ، بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ تَحَقُّقِهِ، إذْ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ لِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا لِلْأَخْذِ فِيهِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا.

ثُمَّ إنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ مَنْظُورٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي جَعْلِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِمَالِ الْبَائِعِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ فِيهِ تَضْيِيعٌ لِمَالِ الْمُشْتَرِي، إذْ قَدْ يَكُونُ هَلَاكُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِلَا تَعَدٍّ مِنْهُ بَلْ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ بِإِذْنٍ، فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ خَرَجَ مَالُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا: أَيْ بِلَا عَقْدٍ وَلَا تَعَدٍّ فِي شَيْءٍ فَيَلْزَمُ النَّظَرُ لِأَحَدِ الْمُتَآخِذَيْنِ فِي الْعَقْدِ وَتَرْكُ النَّظَرِ عَنْ الْآخَرِ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: كَالْحَمْلِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: كَذَا ذَكَرَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>