مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ،
فِي النَّظَائِرِ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيُّ.
أَقُولُ: فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إشْكَالٌ: أَمَّا فِي مِثَالِ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ انْتَهَى. إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ كَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ. وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي شَأْنِ الْحَمْلِ حَيْثُ قَالُوا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ: إنَّهُ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ، وَمِمَّنْ ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ جِدًّا بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ صَاحِبُ الْكَافِي، فَإِنَّهُ قَالَ هَاهُنَا: سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَالَ فِي الْإِجَارَاتِ: وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ لَا يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى.
وَأَمَّا فِي مِثَالِ الزِّرَاعَةِ فَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَا يَزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّ الزِّرَاعَةَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، وَعَنْ هَذَا مَثَّلَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ لِمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِأَمْثِلَةٍ، وَعَدَّ مِنْهَا الزِّرَاعَةَ حَيْثُ قَالَ: كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ. وَأَمَّا فِي مِثَالِ السُّكْنَى فَلِأَنَّ سُكْنَى الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ دُونَ سُكْنَى غَيْرِهِمَا، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ سُكْنَاهُمَا فِي اسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى كَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، فَكَانَ السُّكْنَى أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِضْرَارَ بِالْبِنَاءِ أَثَرُ الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ لَا أَثَرُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّكْنَى لَا يُؤَثِّرُ فِي انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يُضَافُ الِانْهِدَامُ إلَى الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فَلَمْ يَقَعْ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِي نَفْسِ السُّكْنَى بَلْ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَالْمِثَالُ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ نَفْسُ السُّكْنَى فَلَا إشْكَالَ فِيهِ (قَوْلُهُ: وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ﵀ الْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ.
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ فِي الْإِعَارَةِ كَذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَقَدْ تَدَارَكَ الشَّافِعِيُّ دَفْعَهُ حَيْثُ قَالَ فِي ذَيْلِ تَعْلِيلِهِ: وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ: يَعْنِي أَنَّ عِلَّةَ اعْتِبَارِ الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ حَاجَةِ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْإِعَارَةِ لِانْدِفَاعِ حَاجَتِهِمْ بِالْإِبَاحَةِ فَلَمْ يُتِمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا جَوَابًا عَنْهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: النَّاسُ كَمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ؛ لِأَنْفُسِهِمْ كَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. وَعِنْدَ كَوْنِ الْإِعَارَةِ إبَاحَةً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِالْعَارِيَّةِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُمْ الْأُخْرَى، فَضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ دَعَتْ إلَى اعْتِبَارِ الْمَنَافِعِ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْعَارِيَّةِ كَمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute