وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً. وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ وَالْحِنْطَةُ
فِي الْإِجَارَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ: أَقُولُ: لَمْ يَمُرَّ مِنْهُ كَلَامٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَقَامِ سِوَى بَحْثِهِ الثَّالِثِ مِنْ أَبْحَاثِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ، وَدَفَعْنَا كُلَّهُ هُنَاكَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَشٍّ هُنَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْأَعْيَانِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ كَوْنَ الْفَرْعِ نَظِيرَ الْأَصْلِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ الْفَرْعُ نَظِيرَ الْأَصْلِ قَطْعًا. (قَوْلُهُ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ: أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً. أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ الْمُسْتَعَارَ فِيمَا إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ الْإِعَارَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَتَّى الْمُتُونِ أَنَّ اخْتِصَاصَ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إنَّمَا هُوَ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فَلِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةُ الْإِعَارَةِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ أَوْ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا مِمَّا أَطْبَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى الْمُصَنِّفِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرَكِّبَ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا اهـ. .
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلِمَةِ هَذَا الْإِشَارَةَ إلَى مَا قَالَهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا قَبْلُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِهِ لَمْ يُتِمَّ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً عَلَى مُقْتَضَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ قَاطِبَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَالْعَجَبُ مِنْ عَامَّةِ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْمُشَارَ إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرُوا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا. ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَأَنَّهُ تَنَبَّهَ لِلْمَحْذُورِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةَ الْإِشَارَةِ لَا تَعُودُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَلْ إلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَّةِ مَا شَاءَ إذَا أُطْلِقَتْ الْعَارِيَّةُ. اهـ. أَقُولُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الشَّارِحُ وَجَعَلَهُ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلُ قَطُّ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا، وَلَا يُشَارُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لَا إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَأَنَّهُ هَرَبَ عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَوْ تَرَكَ قَوْلَهُ وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً وَشَرَعَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي بَسَطَهُ بِأَنْ يَقُولَ وَالْإِعَارَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لَكَانَ أَحْرَى، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ، وَذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَبَيَّنَ دَلِيلَ الطَّرَفَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الْمُنْتَفِعِ بِأَنْ أَعَارَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَلَمْ يُبَيِّنْ اللَّابِسَ أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّاكِبَ أَوْ دَابَّةً لِلْحَمْلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحَامِلَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَهُ أَنْ يُعِيرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ اسْتَعَارَ لِيَلْبَسَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَحْمِلَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا فِي الْحَمْلِ، وَلَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute