(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ.
احْتِمَالَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ شُبْهَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالُ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ شُبْهَةُ شُبْهَةٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ تُعْتَبَرُ وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ لَا تُعْتَبَرُ، وَالتُّهْمَةُ فِي صُورَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَفِي صُورَةِ الْمُعَيَّنِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، فَاعْتُبِرَتْ فِي الْأُولَى وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِي الثَّانِيَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ الْوَلِيُّ إذَا أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ. قُلْنَا: قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقُ الْجَوَابِ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُرَدَّ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِهِ. أَوْ نَقُولُ: لَوْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ إخْبَارٌ عِنْدَ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَكَانَ ذَلِكَ إنْشَاءً لِلنِّكَاحِ ابْتِدَاءً فَلَا يُرَدُّ الْإِشْكَالُ لِمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُقْبَلُ هُنَاكَ إقْرَارٌ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاؤُهُ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ فَكَانَ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَاطَّرَدَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا.
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قُلْت: الْأَصْلُ فِي الدَّلَائِلِ الِاطِّرَادُ. وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا أَقَرَّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ؟ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ الشُّهُودِ وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي. وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ: إنَّ قَوْلَهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَحْدَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بَحْثٌ، فَإِنَّ تَمَلُّكَ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرٌ مَعَ التَّصَوُّرِ كَمَا ذَكَرُوا انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالدَّوَرَانِ مَعَ التَّصَوُّرِ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا لَمْ يَحْضُرْ الشُّهُودُ لَمْ يُمْكِنْ إنْشَاءُ النِّكَاحِ شَرْعًا. وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاءٌ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ. وَأَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ فَكَوْنُ تَمَلُّكِ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرًا مَعَ التَّصَوُّرِ لَا يَقْدَحُ أَصْلًا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْغَايَةِ. لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ الشُّهُودِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ؛؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا أَوْ هَالِكًا.
وَقَدْ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ مُدَلِّلًا وَمُفَصِّلًا كَمَا عَرَفْت فَبَقِيَ مِنْهَا وَجْهَانِ، وَهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا مَعَ دَلِيلِهِمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْسِيمِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ: وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُودٍ فَالْقَوْلُ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ لَهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: دَلِيلُ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ مِنْهَا مَحَلُّ إشْكَالٍ، فَإِنَّ الْآمِرَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِاشْتِرَاءِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ لَكِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِاشْتِرَائِهِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ بَلْ اشْتَرَيْته لِنَفْسِك. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ بَلْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ أَلْبَتَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِإِنْكَارِ الْآمِرِ شِرَاءَ الْمَأْمُورِ حُكْمٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ
(وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ) أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ (فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ) أَيْ الْمُشْتَرِي (أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ) يَعْنِي أَنَّ لِفُلَانٍ وِلَايَةَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا (لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ) أَيْ قَوْلَ الْمُشْتَرِي السَّابِقَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ (إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ)؛ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute