وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ،
حُجَّةً. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ، وَذَا لَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّهُ ﵊ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَخَلَا قَوْلُهُ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ هُوَ أَحَقُّ وَإِنْ شَرَطَ الْعِوَضِ قَبْلَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا إلَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْكَافِي أَيْضًا إلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا قَوْلُهُ: ﵊ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَالْمُرَادُ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقَةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَرَجُلٍ يَقُولُ أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْوَاهِبِ حَقًّا أَغْلَبَ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ أَغْلَبُ لَا بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ، إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ، وَذَا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ بَحْثٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْهِبَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ الْهِبَةِ. وَلَئِنْ سَلِمَ عَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَمَا فِي نَحْوِ ﴿أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ وَقَدْ جُوِّزَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَاكَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَفْعَلَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ حَالَ كَوْنِهِ عَارِيًّا عَنْ اللَّامِ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ إذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَلَفْظُ أَحَقُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَارٍ عَنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْبُورَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْوَاهِبُ حَقِيقٌ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ.
نَعَمْ الظَّاهِرُ الشَّائِعُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ أَفْعَلَ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى التَّفْضِيلِ، لَكِنَّ الْمُعْتَرِضَ مَانِعٌ مُسْتَنِدٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ كَافٍ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ قَادِحٌ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ، عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ الْمُرَادُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ حَقٌّ أَغْلَبُ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا لَمَّا كَانَ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ ﵊ «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حُكْمِ تَفْضِيلِ الْفَاضِلِ وَتَرْجِيحِ الْغَالِبِ، فَالْوَجْهُ تَجْرِيدُ أَحَقَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ تَطْبِيقًا لِلْمَقَامَيْنِ وَتَوْفِيقًا لِلْكَلَامَيْنِ فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَدَحَ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا يَجُرُّ إلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَقَدْ نَفَاهُ الشَّارِحُ: يَعْنِي صَاحِبَ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: صَرَّحَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفِيهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ)؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ لَيَصُونَهُ بِجَاهِهِ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute