للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كِتَابُ الْإِجَارَاتِ

(الْإِجَارَةُ: عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ)

فِي الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَإِنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ذَاتُ أَفْرَادٍ. فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْأَرَاضِيِ، وَالدَّوَابِّ، وَنَوْعٌ يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْمُحْتَرَفِينَ لِلْأَعْمَالِ نَحْوَ الْقِصَارَةِ، وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا. اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ اخْتِلَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ ذَاتُ أَفْرَادٍ الْأَشْخَاصَ الْجُزْئِيَّةَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَفْرَادِ لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَمْعِهَا، إذْ لَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لِحَقِيقَتِهَا فَرْدٌ وَاحِدٌ شَخْصِيٌّ أَوْ فَرْدَانِ شَخْصِيَّانِ فَقَطْ حَتَّى يَجْمَعَهَا لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهَا ذَاتُ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ الْأَنْوَاعُ الْكُلِّيَّةُ لَمْ يَتِمَّ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ إلَخْ، إذْ بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ النَّوْعَيْنِ لَهَا لَا يَصِحُّ إيرَادُهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً.

وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ السَّخِيفُ جِدًّا مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ وَيُبْنَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ عَلَمٌ فِي التَّحْقِيقِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ لَهَا أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً: نَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ.

وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ لِيَنْقُلَ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي أُشِيرَ إلَيْهَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ، وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا عَنْ قَرِيبٍ. (قَوْلُهُ: الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ أَوْ نَحْوُهُ لَكَانَ أَوْلَى لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ النِّكَاحَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّيْلَعِيُّ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ حَيْثُ يَشْمَلُهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ بِقَرِينَةِ الشُّهْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ، إذْ لَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَنَحْوُهُ لَمْ يَتَفَاوَتْ الْأَمْرُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ أَيْضًا تَمْلِيكٌ قَطْعًا لَا اسْتِبَاحَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بَلْ لَمَا جَازَ، وَقَدْ أَفْصَحُوا عَنْ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ فَسَّرُوا النِّكَاحَ فِي الشَّرْعِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ، وَقَالُوا: الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَمْلُوكٌ لِلْعَاقِدِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ انْتِفَاعًا وَحَجْرًا. وَقَالُوا: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، وَالْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ هَاهُنَا فِي شَرْحِهِ لِلْكَنْزِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ مُنَاقِضٍ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ تَمْلِيكٌ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ نَفْسَهُ أَيْضًا صَرَّحَ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ قَصْدًا وَمُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِيَاضَ لَا يَجُوزُ فِي الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَزْبُورِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ النِّكَاحُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إبَاحَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>