لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ،
مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ. اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ كَلَامَيْهِ تَدَافُعًا، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَوَّلِ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ، وَمُقْتَضَى الثَّانِي عَدَمُ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ لِلنِّكَاحِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ: وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي، وَالشُّرَّاحُ هُنَاكَ: وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ فِي النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُشَاكِلٌ لِلْإِجَارَةِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ إلَّا مُؤَبَّدًا، وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتَةً فَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَأَنَّى تَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ؟. انْتَهَى كَلَامُهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ بِذَلِكَ جَعْلُ لَفْظِ الْإِجَارَةِ اسْتِعَارَةً لِلنِّكَاحِ لَمْ يَتَنَاوَلْ تَعْرِيفَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، أَوْ بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ لِلنِّكَاحِ تَأَمَّلْ تَقِفْ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ. اهـ. أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ التَّعْرِيفِ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ كَمَا يَخْرُجُ النِّكَاحُ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَاتِ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَالْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ؛ لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ، وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْهَا، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَاتُ الْمُنْدَرِجَةُ تَحْتَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَيَخْتَلُّ قَطْعًا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ: قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ مَا أَعْطَيْت مِنْ كِرَاءِ الْأَجِيرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. قُلْتُ: قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا فَيَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ. اهـ. أَقُولُ: النَّظَرُ الْمَزْبُورُ ظَاهِرُ الْوُرُودِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ لَا أَمْرٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ الْإِيجَارُ، وَقَدْ كَانَ هَذَا خَطِرَ بِبَالِي حَتَّى كَتَبْتُهُ فِي مُسْوَدَّاتِي مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَرَى مَا كَتَبَهُ غَيْرِي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ قُلْتُ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ إلَخْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِنْهُ كَمَا تَقُولُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابَةً بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ جَمْعُ إجَارَةٍ عَلَى فِعَالَةٍ بِالْكَسْرِ اسْمُ لِلْأَجْرِ بِمَعْنَى الْأُجْرَةِ، مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ. إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ مَصْدَرَ الثُّلَاثِيِّ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسَ فِيهِ، فَكَوْنُ الْكِتَابَةِ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِجَارَةِ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سُمِعَتْ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَمْ تُسْمَعْ مَصْدَرًا قَطُّ.
وَالْكَلَامُ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا فِي الِاحْتِمَالِ الْعَقْلِيِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ مَجِيءُ الْإِجَارَةِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ كَمَجِيءِ الْأَجْرِ مَصْدَرًا مِنْهُ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ أَيْضًا، إذْ لَا تَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute