وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى مَا سَيُوجَدُ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهَا الْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» وَقَوْلُهُ ﵊ «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ،
الْإِجَارَةُ حِينَئِذٍ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ بَيْعَ الْمَنَافِعِ بَلْ تَكُونُ إعْطَاءَ الْأَجْرِ، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: إنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَلَا اسْتِقَامَةَ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ هَاهُنَا: بَيَّنَ الْمَفْهُومَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ اللُّغَوِيَّ هُوَ الشَّرْعِيُّ بِلَا مُخَالَفَةٍ، وَهُوَ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا فَالشَّرْعِيُّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ. اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا لَوْ تَمَّ لَاقْتَضَى تَقْدِيمَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُوَافِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، مَعَ أَنَّ دَأَبَ الْمُصَنَّفِينَ عَنْ آخِرِهِمْ جَرَى عَلَى تَقْدِيمِ بَيَانِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عَلَى بَيَانِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِكَوْنِ اللُّغَوِيِّ هُوَ الْأَصْلَ الْمُتَقَدِّمَ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي هَاهُنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ سَلَكَ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ عَقْدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ، وَلَكِنْ طَوَى الصُّغْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ هُوَ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ. وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ مَفْهُومِهَا الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُدَّعَى عَلَى الدَّلِيلِ، تَدَبَّرْ فَإِنَّهُ وَجْهٌ حَسَنٌ.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الْآثَارُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ. اهـ. أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ، إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ، وَمِنْ قَوْلِهِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ أَنْ يَنْحَصِرَ دَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا فِي الْأَثَرِ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِ قَيْدِ الْأَثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْحَصِرٍ فِي الْأَثَرِ بَلْ الْكِتَابُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ ﵇ ﴿أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ وَكَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ.
(قَوْلُهُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: ﵊ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ») قَالَ الشُّرَّاحُ: فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ مَأْمُورٌ بِإِعْطَائِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: وَقَعَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُضَافِ إلَى الْأَجِيرِ حَيْثُ قَالَ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ» وَذَلِكَ يُفِيدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَجْرِ الْمَأْمُورِ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ دُونَ أَجْرِ الْمِثْلِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ تَبَصَّرْ.
(قَوْلُهُ: وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يُتَأَمَّلَ فِي هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute