فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ. وَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأَجْرِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ. وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُثْبِتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ.
فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ صَارَتْ مَوْجُودَةً ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، وَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ مَوْجُودَةً كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ حَرَامٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَجَبَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ انْتَهَى.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَانِعٌ عَنْهُ انْتَهَى. أَقُولُ: هَذَا الْإِيرَادُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ إذَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي حُكْمِ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَبْقَى لِانْتِفَاءِ الْوُجُودِ حَقِيقَةُ صَلَاحِيَّةٍ لِلْمَنْعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا يَجْعَلُهَا مَوْجُودَةً؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَلَوْ كَانَ انْتِفَاءُ وُجُودِهَا حَقِيقَةً مَانِعًا عَنْهُ لَزِمَ أَنْ يَلْغُوَ جَعْلُ الشَّرْعِ إيَّاهَا مَوْجُودَةً وَهَذَا خُلْفٌ. وَعَنْ هَذَا قَالُوا: وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ جَعْلِ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ وَلَا حَيَاةَ فِيهَا كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا أُشِيرُ إلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَهُوَ أَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَوْضَحَ وَأَوْسَعَ مِنْهُ وَهُوَ إقَامَةُ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَالدَّارِ مَثَلًا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ. ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ أَصْلٌ شَائِعٌ فِي الشَّرْعِ. كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ، وَإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَهَلُمَّ جَرَّا مِنْ النَّظَائِرِ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَلَا يَتَعَدَّى مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ إلَى إفَادَةِ الْمِلْكِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ إذَا ثَبَتَ يَسْتَتْبِعُ لَوَازِمَهُ، وَإِفَادَةُ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَتَرَاخَى إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ وَلَوْ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ مُدَّعَاهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ فِي الْحَالِ. وَالْجَوَابُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا هُوَ لِتَصْحِيحِ مُدَّعَاهُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَسْفُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، وَلَوْ حُكْمًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ انْتَهَى.
أَقُولُ مَا ذَكَرَهُ فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ سَلَّمَ كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ إفَادَةَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ كَمَا هُوَ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَبِيعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُودَ الْحُكْمِيَّ لَا يَكَادُ أَنْ يُخَالِفَ الْوُجُودَ الْحَقِيقِيَّ فِي اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَعْلِ الشَّرْعِ الْوُجُودَ الِاعْتِبَارِيَّ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَوَّلًا كَوْنَ إفَادَةِ الْمِلْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَزِمَهُ تَسْلِيمُ كَوْنِهَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ حُكْمًا أَيْضًا، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي التَّرْدِيدِ وَفِي الْمَنْعِ، وَالتَّسْلِيمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ أَبْطَلَهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَهُ مَطَالِبٌ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute