. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يُخَالِفُهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ كَالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّعْجِيلِ زَالَ الْمَانِعُ فَصَحَّ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ دَلِيلُنَا بِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ، وَالِارْتِهَانَ عَنْهَا، وَالْكَفَالَةَ بِهَا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْلَا الْمِلْكُ لَمَا صَحَّتْ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَمْنُوعَةٌ، وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ، إذْ اللَّفْظُ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ، وَعَدَمُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ، وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِوُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَصِحَّةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ اشْتِرَاطِهِ، فَكَذَا الرَّهْنُ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ النِّهَايَةِ، إلَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِتَجْوِيزِ مُحَمَّدٍ ﵀ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْأُجْرَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْمَنَافِعِ مَعْدُومَةً كَذَلِكَ تَحَقَّقَتْ ضَرُورَةٌ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ اقْتِضَاءُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةَ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْعَقْدُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ قَضِيَّتِهَا الْمُسَاوَاةُ، فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّرَاخِي فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ التَّرَاخِي فِي الْبَدَلِ الْآخِرِ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُجْرَةِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ فِي حَقِّهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ لَا يَتَمَشَّى أَصْلًا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً أَيْضًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْبَدَلَيْنِ مَعْدُومٌ هُنَاكَ قَطْعًا فَلَا فَرْقَ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ فَظَهَرَ الِانْعِقَادُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: إنْ أَرَادَ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَائِنَا، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَلْيُبَيِّنْ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ أَبْرَأْتَنِي إقْرَارٌ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى، فَلْيُتَأَمَّلْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: قَدْ أَخَذَ أَصْلَ إيرَادِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ وَإِنَّهُ سَاقِطٌ. أَمَّا بَيَانُ أَخْذِهِ مِنْ الْبَدَائِعِ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ ذَكَرَ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ وَجْهَيْنِ. وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَهُ الْقَائِلُ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِمُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَعْتَقْتُ؛ وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ. إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ سَاقِطٌ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالِانْعِقَادِ الِانْعِقَادَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَذْهَبِنَا انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الدَّرَجَةُ الْأُولَى، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ.
وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْعَقِدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ فَسَّرَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَانْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعْ مَحَلَّهُ وَهُوَ أَوَاخِرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إجَارَاتِ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُورِدُ فِي عِلَاوَتِهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا، إذْ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ أَصْلًا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ تَرَكَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ قَيْدَ الْمُنْعَقِدِ عِنْدَ تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀ بِقَوْلِهِ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَاهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ بِأَنْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ لَمَا تَمَشَّى الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِتَرْدِيدِ الْمُرَادِ بِالِانْعِقَادِ أَصْلًا، وَكَفَى فِي إثْبَاتِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀: وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَالْعِنَايَةِ لِحَدِيثِ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْأُجْرَةِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ اكْتَفَيَا بِأَنْ يُقَالَ: إنَّ الْإِبْرَاءَ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْعَقْدُ فَصَحَّ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ، كَمَا اكْتَفَى بِهِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute