قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا)؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ،
فِي بَابٍ آخَرَ آتٍ عَقِيبَ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ، وَمَا يَكُونُ خِلَافًا فِيهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْمُؤَجِّرِ كَمَا وَقَعَ فِي عِنْوَانِ الْبَابِ. وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَالْعِنَايَةِ: لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ وَشَرْطِهَا وَوَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ ذَكَرَ هُنَا مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَتَقْيِيدِهِ، وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يُعَدُّ خِلَافًا مِنْ الْأَجِيرِ لِلْمُؤَجِّرِ وَمَا لَا يُعَدُّ خِلَافًا انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى صِلَةُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لَا صِلَةُ الِاسْتِئْجَارِ: يَعْنِي وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَا أَنْ يَقُولَ زَمَانَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى، وَالتَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ إلَى سِمَتِهِ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَصَحَّحَهُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى بِالِاسْتِئْجَارِ: أَيْ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مَا يَعْمَلُ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَا يُفْسِدُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيمَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَلَامٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: لِلسُّكْنَى صِلَةَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ وَكَانَ الْمَعْنَى وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ لِلسُّكْنَى فَائِدَةٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ الْغَيْرِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى، أَوْ يَقْصِدَ بِهِ مُجَرَّدَ بَيَانِ حَالِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ بِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلسُّكْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ دَارٍ أَوْ حَانُوتٍ لَمْ يُعَدَّ لِلسُّكْنَى فِي الْخَارِجِ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِرَازُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي اسْتِئْجَارِ كُلِّ دَارٍ وَحَانُوتٍ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْجَوَازُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ اللَّغْوِ، فَإِنَّ كَوْنَ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ مِمَّا يُعَدُّ لِلسُّكْنَى غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلَى أَحَدٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَوْ نَصَّ هَكَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى اسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ لِأَجْلِ السُّكْنَى وَعَمِلَ فِيهَا غَيْرَ السُّكْنَى مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ لِلْبِنَاءِ مِنْ السُّكْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلِهَذَا إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، فَفِيمَا هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا شَرَطَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ التَّقْيِيدَ.
ثُمَّ الْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ قَيْدُ لِلسُّكْنَى فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَمْ يَقَعْ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ لَكَانَ أَوْلَى وَأَحْسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ، وَالْإِيضَاحِ كَمَا رَدَّ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَارَفَ فِيهَا السُّكْنَى فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ لَا يَتَفَاوَتُ فَصَحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُهُ قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى مُوهِنِ الْبِنَاءِ، بَلْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءَ يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ شَطْرَيْ كَلَامِهِ بِسَدِيدٍ. أَمَّا شَطْرُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُرْفَ يَصْرِفُ مُطْلَقَ الْعَمَلِ إلَى السُّكْنَى، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَبْقَى أَعْمَالُ السُّكْنَى عَلَى إطْلَاقِهَا، فَلَهُ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute