لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ (وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ) لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ تَبَرُّعٌ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَيُمَلِّكَهُ، إلَّا أَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ضِيَافَةٍ وَإِعَارَةٍ لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْمُجَاهِزُونَ.
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَتَوَابِعِهِ (وَلَا يَتَكَفَّلُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ وَلَا يَمْلِكُهُ بِنَوْعَيْهِ نَفْسًا وَمَالًا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ (وَلَا يُقْرِضُ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الِاكْتِسَابِ (فَإِنْ وَهَبَ
رُجِعَ إلَى الْعَمَلِ بِكَوْنِهَا مُعَاوَضَةً فِيمَا دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِكَوْنِهَا إعْتَاقًا فِي غَيْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ رِعَايَةً لِلشَّبَهَيْنِ رُجِعَ هَذَا الْوَجْهُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا وَجْهُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ. إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَ لِشَبَهِهِ بِالْعِتْقِ أَثَرٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ إعْتَاقًا فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا
(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: تَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُ هَذَا الدَّلِيلِ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا؟ وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْتَهَى.
أَقُولُ: بَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لَهُ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بِتَزْوِيجِ نَفْسَهَا تَتَمَلَّكُ الْمَهْرَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَمَأْخَذُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ انْتَهَى. لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ، فَإِنَّ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا وَتَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فَرْقًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ مَسْأَلَةِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فِيمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ أَوْضَحَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ سَأَلَ هُنَاكَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا مَلَكَ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ الْمُكَاتَبَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا لِوُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَكْسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَتُسْقِطُ نَفَقَتَهَا عَنْ نَفْسِهَا.
وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَ فِي بَابِ جِنَايَةِ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ مِنْ كِتَابِ عَتَاقِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى. وَأَجَابَ بِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا لَيْسَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِلتَّحْصِينِ وَالْعِفَّةِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا مِنْ تَزْوِيجِ نَفْسِهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْمَالِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ: وَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ تَقِفْ. نَعَمْ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الشُّرَّاحِ وَصَاحِبِ الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِ هَذَا الدَّلِيلِ بِالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ الْتِزَامَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ، لَكِنْ الْكَلَامُ فِي إمْكَانِ تَعْمِيمِ الدَّلِيلِ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ الْأَظْهَرَ الْخَالِيَ عَنْ شَائِبَةٍ تُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُذَكَّرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute