للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بِرِضَا الْخَصْمِ: أَيْ لَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ لَوَازِمِ اللُّزُومِ فَيَجُوزُ ذِكْرُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَحْرِيرًا وَإِيرَادًا حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ مَجَازًا لِقَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ الْجَوَازِ، وَأَرَادَ اللُّزُومَ فَإِنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ فَيَكُونُ مِنْ ذِكْرِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ، وَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمُ اللُّزُومِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. سَلَّمْنَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ انْتَهَى.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجَازٍ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِ مَجَازًا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَفِي الْكِنَايَةِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ لَمْ يُذْكَرْ فِي تَحْرِيرِ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَكَانَ مَدَارُ رَدِّهِ الْمَزْبُورَ عَلَى لَفْظٍ زَادَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي بَيَانِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا أَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ كِلَيْهِمَا مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ. وَرَدُّوا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَاكِيُّ بِأَنَّ اللَّازِمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لَمْ يُنْتَقَلْ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ، وَجَعَلُوا الْعُمْدَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا جَوَازَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَعَدَمَ جَوَازِهَا، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى يَلْزَمُ بِلَا مَحْذُورٍ أَصْلًا.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا: التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ إنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ وَإِلَّا فَلَا فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ وَإِلَى التَّوْجِيهِ بِجَعْلِهِ مَجَازًا انْتَهَى. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ فِي قُوَّةِ قَوْلِنَا التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ لَازِمٍ أَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ هُوَ مَعْنَى الثَّانِي بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ يُغَايِرُ مَعْنَى اللُّزُومِ، فَنَفْيُ الْأَوَّلِ يُغَايِرُ نَفْيَ الثَّانِي قَطْعًا، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَوَّلِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ، فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةُ فَيَتَبَادَرُ إلَى ذِهْنِ النَّاظِرِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي نَفْسِ الْجَوَازِ، فَدَفَعَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي اللُّزُومِ فَهَذَا الْكَلَامُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ بِأَوَّلِ مَنْ حَمَلَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ عَلَى اللُّزُومِ، بَلْ سَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي: إنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُوَكِّلَ بِأَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُجِيبَ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْعَالِمُ حَيْثُ قَالَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ: التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ لَا يَقَعُ لَازِمًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَقَعُ لَازِمًا. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ أَنَّ رِضَا الْخَصْمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَلُزُومِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. بَعْضُهُمْ قَالُوا: رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَهُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ. ذُكِرَ فِي شُفْعَةِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذُكِرَ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ: لَا يُقْبَلُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْكِيلَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْخَصْمَ الْحُضُورُ. وَالْجَوَابُ لِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يُمْكِنُهُ الْحُضُورُ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عِنْدَهُ انْتَهَى.

وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا (لَهُمَا) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (أَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ) أَيْ فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِالْجَوَابِ وَكِلَاهُمَا مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ. أَمَّا الْخُصُومَةُ فَلِأَنَّهَا الدَّعْوَى وَهِيَ خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يُجْبَرَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ إمَّا إنْكَارٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصُ حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ) فَصَارَ (كَالتَّوْكِيلِ بِتَقَاضِي الدُّيُونِ) وَقَبْضِهَا وَإِيفَائِهَا (وَلَهُ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ) أَيْ يَسْتَحْضِرُ الْمُدَّعِي الْخَصْمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِيُجِيبَهُ عَمَّا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ، لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ (وَ) هَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ (النَّاسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>