. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مُتَفَاوِتُونَ فِي الْخُصُومَةِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَى وَالْإِثْبَاتِ، وَمِنْ جِهَةِ الدَّفْعِ وَالْجَوَابِ. فَرُبَّ إنْسَانٍ يُصَوِّرُ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَرُبَّ إنْسَانٍ لَا يُمْكِنُهُ تَمْشِيَةُ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﵊ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ. فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَالْأَسْرَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُوَكَّلُ عَادَةً إلَّا مَنْ هُوَ أَلَدُّ وَأَشَدُّ فِي الْخُصُومَاتِ لِيَغْلِبَ عَلَى الْخَصْمِ (فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ) أَيْ بِلُزُومِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ بِلَا رِضَا الْخَصْمِ (يَتَضَرَّرُ بِهِ) أَيْ يَتَضَرَّرُ الْخَصْمُ بِهِ (فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ) فَصَارَ (كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ (يَتَخَيَّرُ الْآخَرُ) أَيْ يَتَخَيَّرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَيْنَ إمْضَاءِ الْكِتَابَةِ وَفَسْخِهَا، فَكَانَ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا مُتَوَقِّفًا عَلَى رِضَا الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ لِمَكَانِ ضَرَرِ شَرِيكِهِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀: وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُضُورَ وَالْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ لِيُجِيبَ خَصْمَهُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ؛ فَرُبَّ إنْكَارٍ يَكُونُ أَشَدَّ دَفْعًا لِلْمُدَّعِي مِنْ إنْكَارٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ الْوَكِيلِ ذَلِكَ الْأَشَدَّ، فَإِنَّ النَّاسَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ وَالْأَبَاطِيلِ لِيَدْفَعَ حَقَّ الْخَصْمِ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْخَصْمِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا لَا يُمْلَكُ بِدُونِ رِضَاهُ انْتَهَى. كَلَامُهُ.
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ سَبَقَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَامٌّ لِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَصُرِّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفَتَاوَى أَيْضًا. وَفِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِصُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا تَرَى فَكَانَ تَقْصِيرًا مِنْهُمْ لِتَحَمُّلِهِ التَّقْرِيرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِنَا. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، فَإِنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ وَلِهَذَا يَسْتَحْضِرُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ خَالِصًا لَهُ. سَلَّمْنَا خُلُوصَهُ لَهُ لَكِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ غَيْرُهُ، وَهَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَاهُ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعِيٌّ لِمَا قَالَاهُ، وَالْآخَرُ: تَسْلِيمِيٌّ لَهُ، فَيَرِدُ حِينَئِذٍ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مَا يَرِدُ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَوْنِ الدَّلِيلِ مَخْصُوصًا بِإِحْدَى صُورَتَيْ الْمَسْأَلَةِ الْعَامَّةِ الْمُدَّعَاةِ تَأَمَّلْ تَقِفُ.
فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا وَاحِدًا وَيُقَرَّرَ بِوَجْهٍ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا فَعَلْنَاهُ فِي شَرْحِنَا، لَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ (بِخِلَافِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا، وَالْمُرَادُ بَيَانُ وَجْهِ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَثْنَى لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ) أَيْ غَيْرُ وَاجِبٍ (عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (هُنَالِكَ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لِعَجْزِ الْمَرِيضِ بِالْمَرَضِ وَعَجْزِ الْمُسَافِرِ بِالْغَيْبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمَا الْجَوَابُ لَزِمَ الْحَرَجُ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ أَقُولُ: هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْفَرْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُدَّعِي سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا أَوْ مَرِيضًا مُسَافِرًا، فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ لَا عَلَى مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَامَّةٌ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا تَحَقَّقْته، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَوَقُّعَ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنْ الْمَوْتِ وَآفَاتِ التَّأْخِيرِ أَشَدُّ مِنْ الضَّرَرِ اللَّازِمِ بِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْخُصُومَةِ فَيُتَحَمَّلُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوْ كَانَ غَائِبًا أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ أَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْمِصْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ إلَى بَابِ الْقَاضِي كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مُدَّعِيًا كَانَ أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ أَوْ ظَهْرِ إنْسَانٍ، فَإِنْ ازْدَادَ مَرَضُهُ بِذَلِكَ صَحَّ التَّوْكِيلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَزْدَادُ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى (ثُمَّ كَمَا يَلْزَمُ التَّوْكِيلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute