للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ (وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ)

وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَتْلٍ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا فَصَلَ بِفَصْلٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحِلُّ فِعْلُهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَمَسَائِلُ الْفَصْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إلَخْ) أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إشْكَالٌ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا خِيفَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ رَاجِحًا بَلْ فَرْضًا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، فَإِطْلَاقُ الْمُبَاحِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُنَافِيًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْمُبَاحِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ فَرْضًا لِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَسَادٌ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَالْإِتْيَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمُ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ هَاهُنَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا؟ كَيْفَ وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَمَا صَارَ طَرَفُ تَرْكِهِ حَرَامًا لَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ قَطْعًا، فَلَوْ صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَزِمَ اجْتِمَاعُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي حَالَةٍ قَدْ يَصِيرُ تَرْكُهُ حَرَامًا فِي حَالَةٍ أُخْرَى لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَنْقَلِبُ وَاجِبًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ نَحْوَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا كَانَ مُبَاحًا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ دُونَ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>