للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ. قُلْنَا: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. .

قَالَ (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ

صَيْرُورَةَ تَرْكِهِ حَرَامًا إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَيْضًا، إذْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَصِيرُ تَرْكُهُ وَاجِبًا قَطْعًا فَلَزِمَ أَنْ تَجْتَمِعَ إبَاحَتُهُ وَحُرْمَةُ تَرْكِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْقِلَابُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْوُجُوبِ بِحَسَبِ الْحَالَتَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

لَا يُقَالُ: سَبَبُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ حَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَسَبَبُ حُرْمَةِ التَّرْكِ فِيهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ إنَّمَا هُوَ إفْضَاءُ التَّرْكِ فِيهِ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّا نَقُولُ: اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُ اسْتِوَائِهِمَا مُتَنَاقِضَانِ قَطْعًا، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ عُلِّلَ بِهِمَا لَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى كُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ.

قَالَ: لَا يُقَالُ مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هُوَ عِلِّيَّتُهَا لَهُ، وَمَنْشَأُ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا عِلِّيَّةُ الْأُخْرَى لَهُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا. لِأَنَّا نَقُولُ: احْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى آخَرَ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ فِيهِ مُتَنَاقِضَانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَا فِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلْيُنْظَرْ إلَيْهِ وَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ. فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى تَلِفَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي إتْلَافِ نَفْسِهِ انْتَهَى، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ، إذْ لَا مُمَانَعَةَ لِلْعِلْمِ فِي أَنْ لَا يَأْثَمَ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَاحٌ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ عَلِمَ إبَاحَتَهُ، بَلْ بِالْعِلْمِ بِإِبَاحَتِهِ يَنْكَشِفُ عَدَمُ الْإِثْمِ فِي تَرْكِهِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَمَّا يُقَالُ إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>