بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ
مُمْتَدًّا إلَيْهَا فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَشُدَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَغَايَتُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْله تَعَالَى ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ فَمُجَرَّدُ دُخُولِ مَدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ إلَى ثَمَانِيَ عَشَرَةَ فِي مَدِّهِ إلَى أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ وَغَايَتَهُ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُهَا أَشُدَّهُ فِيمَا إذَا مَدَّ الْحُكْمَ إلَى أَقْصَاهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا فِي ضِمْنِ وُجُودِ مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا الْأَشُدَّ بَلْ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا، وَالْمَطْلُوبُ هَاهُنَا هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ: وَلِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَأَمَّا فِي التَّبْيِينِ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ.
(بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ)
تَلْقِيبُ هَذَا الْبَابِ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَمَا قَبْلَهُ بِالْحَجْرِ لِلْفَسَادِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَطْ كَمَا قَالُوا فِي فَصْلِ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي بَابِ مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ.
لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْهَا، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ نَظَرِ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ إثْبَاتًا مِنْهُمَا وَنَفْيًا مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِيهِ وَصْفٌ زَائِدٌ، فَصَارَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَلَا جَرْمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ (قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ يُنَافِيهِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَعَلَّ الْعِبَارَةَ فَلَا يُرْتَكَبُ، وَقَوْلُهُ فَلَا يُتْرَكُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute