للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ

سَهْوٌ مِنْ النَّاسِخِ انْتَهَى.

ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا عَلَيْهِ النُّسَخُ الْآنَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى عَلَى أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ لَا إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ، وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْمَالِ نَفْسِهِ لَا عَلَى ضَرَرِهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَدْنَى وَلَمْ يَقُلْ لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ ضَرَرًا فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كَوْنِ أَهْلِيَّتِهِ أَعْلَى: أَيْ أَشْرَفَ، وَكَوْنِ الْمَالِ أَدْنَى: أَيْ أَخَسَّ، فَإِنَّ ضَرَرَ فَوْتِ الْأَشْرَفِ فَوْقَ ضَرَرِ فَوْتِ الْأَخَسِّ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قُلْت: الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ الْآتِي وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْأَدْنَى ضَرَرًا يُقَابِلُهُ.

قُلْت: تَطْبِيقُ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي حَيِّزِ الْمُرَادِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ عُلُوَّ نَفْسِ الْأَهْلِيَّةِ شَرَفًا وَعُلُوَّ إهْدَارِهَا ضَرَرًا مُتَلَازِمَانِ، وَكَذَا دَنَاءَةُ نَفْسِ الْمَالِ وَدَنَاءَةُ ضَرَرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي مَوْضِعٍ نَفْسُ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْسُ الْمَالِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ضَرَرُهُمَا، وَيَحْصُلُ بِهَذَا الْقَدْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.

وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ التَّرْكُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى مَعْنَى الْإِبْقَاءِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى فَلَا يُبْقَى الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى: أَيْ لِأَجْلِ دَفْعِهِ، وَمَجِيءُ التَّرْكِ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ وَاقِعٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ جَلَّ اسْمُهُ ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ أَيْ أَبْقَيْنَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ وَشَائِعٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ حَيْثُ يَقُولُونَ: تُرِكَ عَلَى حَالِهِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي. فَإِنْ قُلْت: مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَحَلَّ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ نَفْيِ إبْقَاءِ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ تَحَقُّقُ إهْدَارِهَا أَوَّلًا، إذْ الْبَقَاءُ فَرْعُ التَّحَقُّقِ.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَجُوزَ إهْدَارُ أَهْلِيَّةِ الْإِنْسَانِ رَأْسًا لِأَنَّ فِيهِ إلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ. قُلْت: لَا نُسَلِّمُ تَبَادُرَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ، وَكَوْنُ الْبَقَاءِ فَرْعَ التَّحَقُّقِ إنَّمَا هُوَ فِي الثُّبُوتِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَالثَّالِثُ أَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ لَا فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى الزَّائِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ وَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ عُيِّنَتْ مَوَاقِعُ زِيَادَةِ لَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ النَّحْوِ: أَحَدُهُمَا مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ. وَثَانِيهِمَا بَعْدَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةِ. وَثَالِثُهَا قَبْلَ الْقَسَمِ عَلَى قِلَّةٍ. وَرَابِعُهَا مَعَ الْمُضَافِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وُقُوعَ لَا الزَّائِدَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ التَّنْزِيلِ، وَعَدَّ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ.

وَقَالَ: فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْخَلِيلُ وَالْفَارِسِيُّ لَا زَائِدَةٌ، وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ، وَعَدَّ مِنْهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ وَقَالَ فَقِيلَ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ الْكُفْرِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَا مِنْ الْمَوَاقِعِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَمُوَافِقَيْنِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّوْجِيهِ.

فَإِنْ قُلْت: لَا يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ آخِرُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْأَدْنَى، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ: يُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى، فَإِنَّ تَرْكَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى لَيْسَ لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى بَلْ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ وَأَقْبَحَ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ذَاكَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَفَسَادُ الْمَعْنَى أَظْهَرُ، إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُتَحَمَّلَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا.

قُلْت: يُمْكِنُ نَظْمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى عَلَى مَعْنَى عِنْدَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى عِنْدَ تَيَسُّرِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِوُجُوبِ اخْتِيَارِ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ، وَهَذَا مَعْنًى مُسْتَقِيمٌ كَمَا تَرَى، وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى عِنْدَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِمْ كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، وَقَالَ: وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جِنِّي قِرَاءَةَ قَوْله تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>