وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ، وَذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى،
الشَّيْءُ مَا يَثْبُتُ بِهِ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ التِّجَارَةِ اهـ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفَكِّ الْحَجَرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ فَيَئُولُ إلَى مَعْنَى انْفِكَاكِ الْحَجْرِ وَيَصِيرُ صِفَةً لِلْحَجْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَكِّ الْحَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ شَرْعًا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَصِفَةٌ لِلْإِذْنِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ الِانْفِكَاكَ أَثَرٌ ثَابِتٌ بِالْفَكِّ كَالِانْكِسَارِ مَعَ الْكَسْرِ. ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِذْنِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ وَعَزَاهُ إلَى التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمِلْكُ الْمَأْذُونِ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا وَضَرُورَاتِهَا، وَعَدَمُ مِلْكِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي التُّحْفَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِالشَّيْءِ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ مَا قُلْنَا فَكَانَ حُكْمًا لَهُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ) فَإِنْ قِيلَ: الْمَأْذُونُ عَدِيمُ الْأَهْلِيَّةِ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِسَبَبِهِ.
أُجِيبُ بِأَنْ حُكْمَ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ، أَلَا يَرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لَلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ قَضَائِهَا مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ، وَمِلْكُ الْعَيْنِ شُرِعَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ، فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ، كَذَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي عَامَّةِ كُتُبِ الْأُصُولِ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الرَّقِيقَ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ يَشْكُلُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ رَقَبَةً لَا يَدًا، وَالْمُدَبَّرُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا لَا رَقَبَةً، وَالْقِنُّ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا وَرَقَبَةً، فَإِنَّ الرَّقِيقَ إذَا كَانَ مَالِكًا يَدَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ يَدًا فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مَوْلَاهُ بِالْإِذْنِ أَوْ الْكِتَابَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، إذْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ (قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute