للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عَلَى سَبِيلِ الْجِهَارِ وَالسَّرِقَةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ لِتَعْرِيفِ الْغَصْبِ شَرِيعَةً فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ قَدْ تَنَبَّهَ لِلُّزُومِ زِيَادَةِ الْقَيْدِ الثَّانِي عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَتَخْرُجَ السَّرِقَةُ اهـ.

وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ يَصْدُقُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ عَلَى السَّرِقَةِ؟ قُلْت: نَعَمْ، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ خُصُوصِيَّةً بِهَا كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ فَدَخَلَ مَسَائِلَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْحُدُودِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا فِي الْغَصْبِ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ بِهَا صَارَتْ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَمَنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ تَصَدَّى لِإِخْرَاجِهَا عَلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السَّرِقَةَ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةٌ فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، إذْ لَا مَنْعَ لِشَيْءٍ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا عَنْ صِدْقِ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ خُصُوصِيَّتُهَا مَانِعَةً عِنْدَ صِدْقِ تَعْرِيفِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا لَوْ زِيدَ عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ قَيْدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِنَّ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَيْدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ يُنَافِي الصِّدْقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعْرِيفُ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ حَدًّا لِلْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا غَصْبًا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِلْقَطْعِ بِتَخَالُفِ حُكْمَيْ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ فَلَغَا قَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِمَا بِالْغَصْبِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَيْسَ بِغَصْبٍ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِيرُ غَصْبًا أَخْذُ الْمُشْتَرِي مِنْ يَدِ الْفُضُولِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَيْعٍ جَزْمًا وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهِ نَفْسُ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَلَا صِحَّةَ فِي التَّمْثِيلِ وَلَا فِي التَّعْلِيلِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُخْرِجُ عَنْهُ بَعْضَ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزً كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْإِحْرَازِ يُنَافِي الِاخْتِفَاءَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي فَصْلِ الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ مِنْ كِتَابِ السَّرِقَةِ: الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ اهـ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ غَيَّرَ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ: بِلَا إذْنِ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ.

وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِلَا إذْنِ مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مِلْكًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ اهـ. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَمْلُوكًا فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ إنَّ الْمَوْقُوفَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا، وَلَئِنْ سَلِمَ تَمَامُ ذَلِكَ فَكَوْنُ الْمَوْقُوفِ مَضْمُونًا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَغْصُوبًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ بِالْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ، بَلْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَدِّي وَالْجِنَايَةِ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ لَيْسَ بِمَغْصُوبَةٍ عِنْدَنَا شَرْعًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهَا حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ، بَلْ هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَنَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ، مَعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>