عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ وَجُحُودِ الْوَدِيعَةِ.
أَقُولُ: كَانَ اللَّائِقُ بِالْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ الْفَاءَ بَدَلَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا إلَخْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْأَصْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ عَلَامَةَ التَّفْرِيعِ فِي اللَّفْظِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ، فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ الْفَاءِ فِي عَامَّتِهَا وَكَلِمَةُ حَتَّى فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْمَأْخُوذِ مَنْقُولًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، حَتَّى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ اهـ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كَلِمَةَ الْفَاءِ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فَبَدَّلَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ فِي الْبِدَايَةِ وَالْهِدَايَةِ. ثُمَّ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ مُطْلَقًا عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ هُوَ الضَّمَانُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ هَاهُنَا بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ وَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، وَالْمُتَحَقِّقُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مُنَافَاةَ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ هُنَا مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ اهـ. أَقُولُ فِيهِ: إنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ، وَهُنَا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مُتَيَسِّرَةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمَجَازِ الْمَجَازَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَلَكِنْ حَقُّ الْأَدَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي غَصْبِ الدُّورِ وَالْعَقَارِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِلَيْهِ مَال الْقُدُورِيُّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْغَصْبِ وَنَفَى الضَّمَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ اهـ كَلَامَهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا فِيهَا، كَيْفَ وَلَوْ قَالَهُ لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي عِبَارَةِ مَنْ أَثْبَتَ الْغَصْبَ وَنَفَى الضَّمَانَ هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ إنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَقَارِ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ إزَالَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute