(فَصْلٌ)
وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ، وَالْمُبَدَّلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْلِ لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ،
لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ. وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ عَلَى طَرَفِ التَّمَامِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، فَلَا وَجْهَ لِبِنَاءِ عَدَمِ وُرُودِ السُّؤَالِ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ فِي الْعَقَارِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَنَى عَلَيْهِ لَوَرَدَ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُطَابِقَ التَّعْلِيلُ الْمُعَلِّلَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْقَوْلِ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْغَصْبِ سَمَّاهُ غَصْبًا فَلَهُ وَجْهٌ؛ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً تَتَّصِلُ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِينَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِعِبَارَةٍ أَقْصَرَ. أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِالضَّمَانِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ هُنَاكَ عِنْوَانُ الْفَصْلِ حَيْثُ قَالَ: فَصْلٌ فِيمَا يَتَغَيَّرُ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ: وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعَظُمَ مَنَافِعُهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ، وَلَوْ سَلَّمَ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ صَرِيحًا (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ، وَالْمُبْدَلُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَيَمْلِكُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: وَكَلَامُهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ الْغَصْبُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute