للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قَالَ: إنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ «إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ. فَكَيْفَ يَتِمُّ التَّعْلِيلُ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ بَاقٍ فِي حَقِّهِمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.

فَإِنْ قُلْت: نَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ كَمَا ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ مَنْ قَبْلَنَا، فَيَدُلُّ النَّصُّ الْمُتَضَمِّنُ لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ «اُتْرُكْهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» عَلَى مُدَّعَانَا هَاهُنَا. قُلْت: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ بِمَا يَدِينُونَ: الدِّيَانَاتُ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ وَلَئِنْ سُلِّمَ الْعُمُومَ لِلْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ؟. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَبِالْعِبَادَاتِ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ أَيْضًا. ثُمَّ أَقُولُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالَ: مَا نَحْنُ فِيهِ مُخَصَّصٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِمْ أَتْبَاعًا لَنَا فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ عُمَرَ حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ؟ فَقَالُوا نُعَشِّرُهَا قَالَ لَا تَفْعَلُوا. وَلَوْ هُمْ بَاعُوهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَبِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا فِيمَا يَتَحَمَّلُ الْخِطَابُ التَّعْمِيمَ لَهُمْ أَيْضًا، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَحَمَّلُهُ فَلَا يَكُونُونَ مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ قَطْعًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَفِي صَدْرِ شَرِيعَتِنَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ، وَالْمُزِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وُجِدَ فِي حَقِّنَا بِدَلِيلِ السِّبَاقِ وَالسِّيَاقِ، فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ لِلتَّعْمِيمِ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا.

وَكَذَا الْحَالُ فِي الْخِنْزِيرِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: تَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَذَا فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ بِالْحُرْمَةِ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَا حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَا حَلَالًا عَلَى الْكُفَّارِ كَنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ كَانَ حَلَالًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً ثُمَّ وَرَدَ التَّحْرِيمُ خَاصًّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حَلَالًا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَكَذَا هَاهُنَا أَلَا يَرَى إلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وَالْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُفْلِحُ إذَا اجْتَنَبَ الْخَمْرَ، وَقَالَ تَعَالَى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ إلَى هُنَا لَفْظُ غَايَةِ الْبَيَانِ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ.

وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفِعٌ بِهِ حَقِيقَةً صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ثَبَتَتْ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾؛ لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ. وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ الضَّمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلِ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>