وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُهُ بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الْخَلُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ، يَجِبُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَأَمَّا الْجِلْدُ فَلَهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيه الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ خَلَّفَهُ قِيمَتَهُ كَمَا فِي الْمُسْتَعَارِ. وَبِهَذَا
لَا يَقْدَحُ فِي دَفْعِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَالسُّؤَالِ الْمَزْبُورِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مَعْلُومٌ وَجْهُهُ فِي مَحِلِّهِ
(قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ الْإِجْمَاعُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ اهـ أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يَكْفِي دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا هُوَ إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَعْظَمِهِمْ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ، لَا إجْمَاعَ الْأُمَّةِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَاهُنَا: وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: يَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ لَوْ تَخَلَّلَتْ الْخَمْرَةُ بِنَفْسِهَا وَهَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ، وَأَمَّا إذَا تَخَلَّلَتْ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ لَا يَضْمَنُ.
وَفِي الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ عَلَى قَوْلٍ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَلَا يَضْمَنُ، وَفِي قَوْلٍ وَجَبَ رَدُّهُ وَيَضْمَنُ اهـ. فَظَهَرَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَئِمَّتِنَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْهَلَاكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ مَالِكًا مِنْ مُعَاصِرِي أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مِنْ مُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي زَمَنِهِمْ عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي بَعْضِ صُوَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعًا، وَلَمْ يُنْقَلْ إجْمَاعُ أُمَّةٍ أُخْرَى مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ عَلَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّلِيلَ لِقَوْلِهِ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَوْمَ الْهَلَاكِ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَا وَجْهَ لِضَمَانِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْهَلَاكِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلٌ فِي هَلَاكِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِفِعْلٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّعَدِّي اهـ كَلَامُهُ. أَقُولُ: ظُهُورُ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُفَصَّلِ الدَّائِرِ عَلَى التَّرْدِيدِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَوْ سُلِّمَ فَكَوْنُهُ أَظْهَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِسَائِرِ الْمَسَائِلِ سِيَّمَا دَلِيلُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْخَلِّ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِ تَرْكُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَسَائِلِ. ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا انْفِهَامُهُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي دَلِيلِ مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ الْهَلَاكُ بِنَفْسِهِ، تَبَصَّرْ تُرْشَدْ.
(قَوْلُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ وَيَضْمَنُهُ وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ اهـ. أَقُولُ: هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا، إذَا لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَإِنَّ نَفْسَ الْغَصْبِ إنَّمَا يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ بِالْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَكَوْنُ نَفْسِ الْغَصْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute