عِتْقُهُ، وَأَفْتَى آخَرُونَ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ بِعِوَضٍ لَا مَجَّانًا فَلَمْ يَضِعْ مِنْهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَاخْتَارَ ابن السبكي هَذَا الثَّانِيَ أَوْرَدَهُ فِي التَّرْشِيحِ، فَإِذَا اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ مُتَقَدِّمُو الْأَصْحَابِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعُمَّ بِهَا الْبَلْوَى فِي زَمَنِهِمْ، وَإِنَّمَا كَثُرَ ذَلِكَ بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ، وَقَدْ قَامَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام - لَمَّا حَدَثَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ - الْقَوْمَةَ الْكُبْرَى فِي بَيْعِ الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ عَبِيدُ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَصِحُّ عِنْدِي عِتْقُهُمْ، وَرَوَى الْحَافِظُ أبو القاسم ابن عساكر بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي حَقِّي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ لَهُ عمر: مَا أَحْوَجَكَ إِلَى أَنْ أَبِيعَكَ وَأَصْرِفَ ثَمَنَكَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَبَاكَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ أَخَذَ أُمَّكَ مِنْ رَقِيقِ بَيْتِ الْمَالِ وَاسْتَوْلَدَهَا إِيَّاكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ زَانٍ، وَأَنْتَ عَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي طَبَقَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَرْجَمَةِ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَمَالِيكِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ فَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ وَبَرَعَ وَصَارَ إِمَامًا قَائِمًا بِالتَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الناصر بِعِتْقِهِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَائِمٌ بِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الْعَتَاقَةَ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ عِتْقِي.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي الْأَسِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ، قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْأَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ بِالْقَتْلِ، فَبِالْمَنِّ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ هَذَا الَّذِي اشْتُرِيَ بِثَمَنٍ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ فِي الْأَسِيرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ يَنْظُرُ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ فَيَفْعَلُهُ، وَثُبُوتُ الْمَصْلَحَةِ فِي عِتْقِ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ مَمَالِيكِ بَيْتِ الْمَالِ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي وَاحِدٍ أَوْ عَشَرَةٍ أَوْ مِائَةٍ لَا تُوجَدُ فِي أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي عِتْقِهِمْ، وَجَمِيعُ مَا يُرَادُ مِنْهُمْ يُمْكِنُهُمْ فِعْلُهُ مَعَ الرِّقِّ، إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ مَرْجِعَ مَا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَنَّهُ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْأَوْقَافِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالتَّرْخِيصِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَضْعَافَ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّ الشَّيْخَ ولي الدين العراقي لَمَّا حَكَى قَوْلَ السبكي فِي إِعْطَاءِ وَظِيفَةِ الْعَالِمِ وَالْفَقِيهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْقَافِ الْخَاصَّةِ وَالَّتِي مَأْخَذُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَظُنُّ الْأَذْرَعِيَّ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ كَلَامِ البلقيني التَّصْرِيحُ بِأَنَّ طَلَبَةَ الْعِلْمِ يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَافِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ عُقِدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَيَّامِ الظَّاهِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute