للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ فِي حَدِيثِ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ]

٦٨ - الْقَوْلُ الْأَشْبَهُ

فِي حَدِيثِ «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. وَبَعْدُ فَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: " «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» " وَرُبَّمَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى لَا صِحَّةَ لَهُ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إِلَى قَوْمٍ أَكَابِرَ، فَرَقَّمْتُ فِي هَذِهِ الْكُرَّاسَةِ مَا يُبَيِّنُ الْحَالَ وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ، وَفِيهِ مَقَالَاتٌ:

الْمَقَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ النووي فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَقَالَ ابن تيمية: مَوْضُوعٌ، وَقَالَ الزركشي فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ: ذَكَرَ ابن السمعاني: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ.

الْمَقَالُ الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ: قَالَ النووي فِي فَتَاوِيهِ: مَعْنَاهُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُوَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَقَالَ الشَّيْخُ تاج الدين بن عطاء الله فِي " لَطَائِفِ الْمِنَنِ ": سَمِعْتُ شَيْخَنَا أبا العباس المرسي يَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَيْ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِذُلِّهَا وَعَجْزِهَا وَفَقْرِهَا عَرَفَ اللَّهَ بِعِزِّهِ وَقُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ، فَتَكُونُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْرِفَةُ اللَّهِ مِنْ بَعْدُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ اللَّهَ مِنْ قَبْلُ، فَالْأَوَّلُ حَالُ السَّالِكِينَ، وَالثَّانِي حَالُ الْمَجْذُوبِينَ.

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ فِي " قُوتِ الْقُلُوبِ ": مَعْنَاهُ إِذَا عَرَفْتَ صِفَاتِ نَفْسِكَ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ وَأَنَّكَ تَكْرَهُ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْكَ فِي أَفْعَالِكَ وَأَنْ يُعَابَ عَلَيْكَ مَا تَصْنَعُهُ عَرَفْتَ مِنْهَا صِفَاتِ خَالِقِكَ، وَأَنَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ فَارْضَ بِقَضَائِهِ وَعَامِلْهُ بِمَا تُحِبُّ أَنْ تُعَامَلَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ عز الدين: قَدْ ظَهَرَ لِي مِنْ سِرِّ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَجِبُ كَشْفُهُ وَيُسْتَحْسَنُ وَصْفُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الرُّوحَ الرُّوحَانِيَّةَ فِي هَذِهِ الْجُثَّةِ الْجُثْمَانِيَّةِ لَطِيفَةً لَاهُوتِيَّةً مَوْضُوعَةً فِي كَثِيفَةٍ نَاسُوتِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرَبَّانِيَّتِهِ.

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْهَيْكَلَ الْإِنْسَانِيَّ لَمَّا كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مُدَبِّرٍ وَمُحَرِّكٍ وَهَذِهِ الرُّوحُ مُدَبَّرَةٌ وَمُحَرَّكَةٌ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَبِّرٍ وَمُحَرِّكٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>