للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحْبِسْكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تُطَلِّقْهَا بَائِنًا حَبَسْتُكَ، فَطَلَّقَهَا بِمَالٍ خَوْفًا مِنَ الْحَبْسِ، هَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا؟

الْجَوَابُ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَتَهْدِيدُهُ بِالْحَبْسِ عَلَى الدَّيْنِ إِكْرَاهٌ بِحَقٍّ، فَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَهُوَ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الْمُعْسِرِ لَا يَجُوزُ، فَهُوَ إِكْرَاهٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.

مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: تَكُونِي طَالِقًا، هَلْ تَطْلُقُ أَمْ لَا؟ لِاحْتِمَالِ هَذَا اللَّفْظِ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، وَهَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَمْ كِنَايَةٌ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي الْحَالِ، فَمَتَى يَقَعُ، أَبِمُضِيِّ لَحْظَةٍ أَمْ لَا يَقَعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مُبْهَمٌ.

الْجَوَابُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كِنَايَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ طَلُقَتْ، أَوِ التَّعْلِيقَ احْتَاجَ إِلَى ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ ثُمَّ بَحَثَ بَاحِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ، فَقَالَ: الْكِنَايَةُ مَا احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنْشَاءَ الطَّلَاقِ وَالْوَعْدَ بِهِ، فَقَالَ: إِذَا قَصَدَ الِاسْتِقْبَالَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى مُضِيِّ زَمَانٍ، فَقُلْتُ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقِ، وَلَا بُدَّ فِي التَّعْلِيقَاتِ مِنْ ذِكْرِ الْمُعَلَّقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْفِعْلُ أَوِ الزَّمَنُ مَثَلًا، وَهُنَا لَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الزَّمَانِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، قَالَ: هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ: تَكُونِي، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ. قُلْتُ: دَلَالَتُهُ عَلَيْهِمَا لَيْسَتْ بِالْوَضْعِ وَلَا لَفْظِيَّةً، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْفِعْلَ وُضِعَ لِحَدَثٍ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ، وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ وُضِعَ لِلْحَدَثِ وَالزَّمَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ بِأَنَّ الدَّلَالَاتِ فِي عُرْفِ النُّحَاةِ ثَلَاثٌ: لَفْظِيَّةٌ وَصِنَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى كَدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْحَدَثِ، وَالثَّانِيَةُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى الزَّمَانِ، وَالثَّالِثَةُ كَدَلَالَتِهِ عَلَى الْفِعَالِ، وَصَرَّحَ ابن هشام الخضراوي فِي الْإِفْصَاحِ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَفْعَالِ عَلَى الزَّمَانِ لَيْسَتْ لَفْظِيَّةً، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ أُصُولِ النَّحْوِ، وَدَلَالَاتُ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ لَا يُعْمَلُ بِهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا، بَلْ لَا يُعْتَمَدُ فِيهَا إِلَّا عَلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ وَالدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَعْدٌ، وَهُوَ مُضَارِعٌ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّنْفِيسِ لَقِيلَ: سَوْفَ تَكُونِينَ طَالِقًا، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ وَعْدٌ بِلَا شَكٍّ، فَكَذَا عِنْدَ تَجَرُّدِهِ مِنْ سَوْفَ، فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ السُّؤَالِ: تَكُونِي، بِحَذْفِ النُّونِ، قُلْتُ: لَا فَرْقَ، فَإِنَّهُ لُغَةٌ، وَعَلَى تَقْرِيرِ أَنْ يَكُونَ لَحْنًا، فَلَا فَرْقَ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَيْنَ الْمُعْرَبِ وَالْمَلْحُونِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى بِذَلِكَ الْأَمْرَ، عَلَى حَذْفِ اللَّامِ؛ أَيْ لِتَكُونِي، فَهُوَ إِنْشَاءٌ، فَتَطْلُقُ فِي الْحَالِ بِلَا شَكٍّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>