وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ قَائِلًا قَالَ: هَذَا الَّذِي أَفْتَيْتَ بِهِ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَيْسَ بِمَنْصُوصٍ فِي مَذْهَبِكَ.
وَكَذَا يَقَعُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ كَثِيرًا، يَدَّعُونَ عَلَيْنَا فِي فَتَاوَى كَثِيرَةٍ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَذْهَبِ، بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ لَا بِنَفْيٍ وَلَا بِإِثْبَاتٍ، كَمَا وَقَعَ لَنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي حِينَ أَفْتَيْنَا بِهَدْمِ الدَّارِ الَّتِي بُنِيَتْ بِرَسْمِ الْفَسَادِ، فَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْأَصْحَابِ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الْغَزَالِيَّ وَغَيْرَهُ أَشَارُوا إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّأْلِيفِ الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِيهَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي هَذِهِ وَغَيْرِهَا: قَوْلُهُمْ مَا أَفْتَيْتُ بِهِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ الْمَسْأَلَةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مُعَارَضٌ بِأَنَّا نَقُولُ لَهُمْ: مَا أَفْتَيْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ أَيْضًا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَكَمَا اسْتَنَدْتُمْ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَةِ الْخِلَافِ إِلَيَّ اسْتَنَدْتُ إِلَى الْعَدَمِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ كِلَاهُمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ نَقْلٍ، فَإِنْ قَالُوا: أَخَذْنَاهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا أَخَذْتُ مِنَ الْقَوَاعِدِ.
وَعَلَى بَيَانِ ذَلِكَ لِمَنْ يُرِيدُ الْإِنْصَافَ، فَمَنْ قَالَ: التَّعْزِيرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعْزِيرَ فِيهَا حَتَّى تُقْدِمَ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَتَنْسُبَهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْقَوْلُ بِهَدْمِ الدَّارِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي شَرَحْتُهَا فِي تَأْلِيفِهَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، أَقُولُ لَهُ: فَهَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ حَتَّى اسْتَنَدْتَ إِلَيْهِ؟ وَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ النَّصِّ وُجِدَتِ النُّقُولُ فِي الْمَذَاهِبِ بِأَحَدِهِمَا، وَالْأَدِلَّةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَعَدَمُ التَّجَاوُزِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوَاعِدِ مَذْهَبِنَا مَا يُخَالِفُهُ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي فَتَاوَى ابن الصلاح أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا لِلْأَصْحَابِ، فَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْصُوصِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ، وَقَرَّرَ النووي فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي قَوَاعِدِنَا مَا يَنْفِيهِ، وَسُئِلَ البلقيني عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَجَابَ فِيهَا بِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عياض فِي الْمَدَارِكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةً لَا نَقْلَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَأَفْتَى فِيهَا بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَكَرَ الزركشي فِي " الْخَادِمِ " مَسْأَلَةَ مَسْحِ الْخُفِّ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ: لَا نَقْلَ فِيهَا، وَأَجَابَ بِالْمَنْقُولِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُهَا فِي كِتَابِي " الْيَنْبُوعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرَّوْضَةِ مِنَ الْفُرُوعِ "، وَمَسْأَلَةُ الْهَدْمِ نَصَّ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهَا الْغَزَالِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَثَبَتَتْ فِيهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْآثَارُ الْكَثِيرَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute