{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ٨٨]- هَذَا نَصُّ الْغَزَالِيِّ بِحُرُوفِهِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي دِمَشْقَ أَنَّ الشَّيْخَ تقي الدين بن الصلاح أَفْتَى بِالْمَنْعِ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ الشَّيْخُ عز الدين بن عبد السلام أَفْتَى بِالْمَنْعِ مِنْهَا، فَعَارَضَهُ ابن الصلاح، وَرَجَعَ عَمَّا أَفْتَى بِهِ أَوَّلًا، وَأَلَّفَ كُرَّاسَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: ٩ - ١٠] ، فَأَلَّفَ الشيخ عز الدين كُرَّاسَةً فِي الرَّدِّ عَلَى ابن الصلاح، وَقَالَ فِيهَا: وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِيَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: ٩ - ١٠] فَأَنَا إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ أبو شامة فِي كِتَابِهِ الْبَاعِثِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالْحَوَادِثِ، وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا لِابْنِ الصَّلَاحِ الْمَثَلَ بِقَوْلِ عائشة فِي حَقِّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى صَلَاةَ النَّافِلَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ، فَقَالَ لَهُ مَنْ مَعَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: لَا أَكُونُ مِمَّنْ نَهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ أُمِرَ بِصَلَاةٍ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أَكُونُ مِمَّنْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ.
فَصْلٌ
عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ هَذَا الْأَمْرُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْإِنْشَاءِ - قَالَ ابن الأثير فِي كِتَابِهِ الْمَثَلِ السَّائِرِ - يَفْتَقِرُ صَاحِبُ هَذَا الْفَنِّ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْآلَاتِ: الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، الثَّانِي: مَعْرِفَةُ اللُّغَةِ، الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ أَمْثَالِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَمَعْرِفَةُ الْوَقَائِعِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَوَادِثَ خَاصَّةٍ بِأَقْوَامٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْثَالِ، الرَّابِعُ: الِاطِّلَاعُ عَلَى تَأْلِيفَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمَنْظُومِ مِنْهُ وَالْمَنْثُورِ، وَالتَّحَفُّظُ لِلْكَثِيرِ مِنْهُ، الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ، السَّادِسُ: حِفْظُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالتَّدَرُّبُ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَإِدْرَاجُهُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ، السَّابِعُ: حِفْظُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسُّلُوكُ بِهَا مَسْلَكَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الِاسْتِعْمَالِ انْتَهَى.
وَقَدْ أَطْبَقَ أَرْبَابُ الْفَنِّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَاسْتِعْمَالِهِ فِي مَطَاوِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْمَقَامَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِيهِمْ أَئِمَّةٌ فُقَهَاءُ كِبَارٌ وَمُحَدِّثُونَ وَزُهَّادٌ وَوَرِعُونَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute