الْإِطْلَاقَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْوُرُودِ، وَالَّذِي وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَالْأَثَرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ إِسْلَامٌ وَإِنْ كَانَ حَقًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قُرْآنٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَوَاخِرِ آيِ الْقُرْآنِ سَجْعٌ بَلْ فَوَاصِلُ وُقُوفًا مَعَ مَا وَرَدَ، كَمَا قَالَ النووي: أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلًا، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ كُلُّ ذَلِكَ وُقُوفًا مَعَ الْوُرُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابن زيد أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وابن زيد أَحَدُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الْعَالِمِينَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّفْسِيرِ، أَفَتَرَاهُ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ؟
كَلَّا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا، بَلْ عَلِمَ تَأْوِيلَهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَدْرَكِ الْجَوَابِ عَنْهَا، فَنَفَى وَهُوَ آمِنٌ مِنْ إِيرَادِهَا عَلَيْهِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ بِكِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْإِسْلَامِ بِأُمَّتِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ مُبَيِّنًا بِهِ تَمْيِيزَ أُمَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّ الْآيَ الْأُخَرَ لَا تُعَارِضُهَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مُسْلِمُونَ لَكَانَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لَهُ: وَأُمَّةُ مُوسَى أَيْضًا مُسْلِمُونَ فَلَا مَزِيَّةَ لِأُمَّتِكَ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْعَجَبِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَضَلِّعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ: الْمُجْمَلُ وَالْمُبْهَمُ، وَالْمُحْتَمَلُ، وَكُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى السُّنَّةِ تُبَيِّنُهُ وَتُعَيِّنُهُ وَتُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إِنَّهُ سَيَأْتِي قَوْمٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ ". وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَرْسَلَهُ إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَخَاصِمْهُمْ وَلَا تُحَاجِجْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ ذُو وُجُوهٍ، وَلَكِنْ خَاصِمْهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُمْ فِي بُيُوتِنَا نَزَلَ، قَالَ: صَدَقْتَ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَيَقُولُونَ، وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَحَاجَّهُمْ بِالسُّنَنِ فَلَمْ تَبْقَ بِأَيْدِيهِمْ حُجَّةٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ: مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَمُفَسِّرَةٌ، وَقَالَ الإمام فخر الدين: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قِسْمَيْنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ ; لِيَكُونَ فِيهِ مَجَالٌ لِكُلِّ ذِي مَذْهَبٌ فَيَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ طَمَعًا أَنْ يَجِدَ كُلٌّ فِيهِ مَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ وَيَنْصُرُ مَقَالَتَهُ فَيَجْتَهِدُونَ فِي التَّأَمُّلِ فِيهِ، فَإِذَا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ صَارَتِ الْمُحْكَمَاتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشَابِهَاتِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ الْمُبْطِلُ مِنْ بَاطِلِهِ وَيَتَّصِلُ إِلَى الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمَا كَانَ مُطَابِقًا إِلَّا لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ وَكَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute