عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ بِالشَّيْءِ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الشَّيْءِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ تَطْرَأُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَطْرَأُ أَيْضًا فِي حَقِّ خَالِقِيَّةِ الْخَالِقِ، وَلَكِنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَكُونُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَلَا يَدُومُ، فَإِنْ دَامَ لَمْ تُطِقْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ، فَرُبَّمَا يَضْطَرِبُ تَحْتَ أَعْبَائِهِ اضْطِرَابًا تَهْلِكُ فِيهِ نَفْسُهُ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ فِي الْفَهْمِ وَالْوَجْدِ وَهِيَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ; لِأَنَّ السَّمَاعَ عَلَى الْأَحْوَالِ، وَهِيَ مُمْتَزِجَةٌ بِصِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ نَوْعُ قُصُورٍ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ أَنْ يَفْنَى بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهِ، أَعْنِي أَنَّهُ يَنْسَاهَا فَلَا يَبْقَى لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَيْهَا، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلنِّسْوَةِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْأَيْدِي وَالسَّكَاكِينِ، فَيَسْمَعُ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ وَفِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ. وَهَذِهِ رُتْبَةُ مَنْ خَاضَ لُجَّةَ الْحَقَائِقِ، وَعَبَرَ سَاحِلَ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَاتَّحَدَ لِصَفَاءِ التَّوْحِيدِ وَتَحَقَّقَ بِمَحْضِ الْإِخْلَاصِ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ خَمَدَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بَشَرِيَّتُهُ، وَفَنَى الْتِفَاتُهُ إِلَى صِفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ رَأْسًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ هُنَا نَشَأَ خَيَالُ مَنِ ادَّعَى الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ، وَقَالَ: أَنَا الْحَقُّ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُ كَلَامَ النَّصَارَى فِي دَعْوَى اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ، أَوْ تَدَرُّعِهَا بِهَا أَوْ حُلُولِهَا فِيهَا عَلَى مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُهُمْ، وَهُوَ غَلَطٌ مَحْضٌ. هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْغَزَالِيِّ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ: مَنْ قَوِيَتْ بَصِيرَتُهُ وَلَمْ تَضْعُفْ مِنَّتُهُ ; فَإِنَّهُ فِي حَالِ اعْتِدَالِ أَمْرِهِ لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَعْرِفُ غَيْرَهَ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْعَالُهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ فَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا وُجُودَ لَهَا بِالْحَقِيقَةِ دُونَهُ، وَإِنَّمَا الْوُجُودُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ الَّذِي بِهِ وُجُودُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ: فَلَا يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَّا وَيَرَى فِيهِ الْفَاعِلَ، وَيَذْهَلُ عَنِ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ: سَمَاءٌ، وَأَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، وَشَجَرٌ، بَلْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ صُنْعُهُ، فَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ مُجَاوِزًا لَهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ نَظَرَ فِي شَعْرِ إِنْسَانٍ أَوْ خَطِّهِ أَوْ تَصْنِيفِهِ، وَرَأَى فِيهِ الشَّاعِرَ وَالْمُصَنِّفَ، وَرَأَى آثَارَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَثَرُهُ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حِبْرٌ وَعَفْصٌ وَزَاجٌ مَرْقُومٌ عَلَى بَيَاضٍ، فَلَا يَكُونُ قَدْ نَظَرَ إِلَى غَيْرِ الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا الْعَالَمُ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَعَرَفَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَحَبَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَاظِرًا إِلَّا فِي اللَّهِ، وَلَا عَارِفًا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مُحِبًّا إِلَّا لِلَّهِ، وَكَانَ هُوَ الْمُوَحِّدَ الْحَقَّ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا اللَّهَ، بَلْ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ نَفْسُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ فَنَى فِي التَّوْحِيدِ وَإِنَّهُ فَنَى عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: كُنَّا بِنَا فَفَنِينَا [عَنَّا فَبَقِينَا] بِلَا نَحْنُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ ذَوِي الْأَبْصَارِ، أَشْكَلَتْ لِضَعْفِ الْأَفْهَامِ عَنْ دَرْكِهَا، وَقُصُورِ قُدْرَةِ الْعُلَمَاءِ بِهَا عَنْ إِيضَاحِهَا وَبَيَانِهَا بِعِبَارَةٍ مُفْهِمَةٍ مُوَصِّلَةٍ لِلْغَرَضِ إِلَى الْإِفْهَامِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute