للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْهُمْ، وَالتَّرَدُّدِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِحُلُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَحُضُورِ جِنَازَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ صَالِحِ أُمَّتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ جُمْلَةِ أَشْغَالِهِ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، فَلَمَّا كَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ اخْتَصَّ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْرَغَ لَهُ مِنْ أَشْغَالِهِ الْمُهِمَّةِ لَحْظَةً يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهُ وَمُجَازَاةً، فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَجْوِبَةٍ كُلُّهَا مِنِ اسْتِنْبَاطِي، وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ: إِذَا نَكَحَ الْفِكْرُ الْحِفْظَ وَلَّدَ الْعَجَائِبَ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ حَادِي عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ رُوحَ الْحَيَاةِ، بَلِ الِارْتِيَاحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: ٨٩] فَإِنَّهُ قُرِئَ فَرُوحٌ - بِضَمِّ الرَّاءِ - وَالْمُرَادُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْصُلُ لَهُ بِسَلَامِ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ ارْتِيَاحٌ وَفَرَحٌ وَهَشَاشَةٌ لِحُبِّهِ ذَلِكَ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَانِي عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الرَّحْمَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ، قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: تَكَرَّرَ ذِكْرُ الرُّوحِ فِي الْحَدِيثِ كَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَوَرَدَتْ فِيهِ عَلَى مَعَانٍ، وَالْغَالِبُ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْجَسَدُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ وَعَلَى جِبْرِيلَ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ ابن المنذر فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: ٨٩] بِالضَّمِّ، وَقَالَ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبْرِهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ بِالْهَدَايَا، وَالْمُرَادُ ثَوَابُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَإِنْعَامَاتُهُ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي جَوَابٌ ثَالِثَ عَشَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ الْمَلَكُ الَّذِي وُكِّلَ بِقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُ السَّلَامَ، وَالرُّوحُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ جِبْرِيلَ أَيْضًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: أَشْرَافُ الْمَلَائِكَةِ تُسَمَّى أَرْوَاحًا، انْتَهَى. وَمَعْنَى " «رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ رُوحِي» " أَيْ: بَعَثَ إِلَيَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِتَبْلِيغِي السَّلَامَ، هَذَا غَايَةُ مَا ظَهَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: وَقَعَ فِي كَلَامِ الشيخ تاج الدين أَمْرَانِ يَحْتَاجَانِ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَزَا الْحَدِيثَ إِلَى التِّرْمِذِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إِلَّا أبو داود فَقَطْ كَمَا ذَكَرَهُ الحافظ جمال الدين المزي فِي الْأَطْرَافِ، الثَّانِي: أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ " رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ " وَهُوَ كَذَلِكَ فِي سُنَنِ أبي داود، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ [رُوحِي] وَهِيَ أَلْطَفُ وَأَنْسَبُ، فَإِنَّ بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ فَرْقًا لَطِيفًا، فَإِنَّ " رَدَّ " يَتَعَدَّى بِعَلَى فِي الْإِهَانَةِ، وَبِإِلَى فِي الْإِكْرَامِ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَطَّأَهُ، وَيَقُولُ رَدَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>