«مَنْ صَلَّى بِأَرْضِ فَلَاةٍ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى وَرَاءَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ» .
قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ.
وَهَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ السبكي فِي " الْحَلَبِيَّاتِ " عَلَى حُصُولِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِذَلِكَ، وَرَوَى عبد الرزاق عَنْ عكرمة قَالَ: «صُفُوفُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى صُفُوفِ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَإِذَا وَافَقَ آمِينَ فِي الْأَرْضِ آمِينَ فِي السَّمَاءِ غُفِرَ لِلْعَبْدِ» - أَوْرَدَهُ الحافظ ابن حجر فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ» " وَقَالَ: مِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى، وعكرمة تَابِعِيٌّ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْزَخِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَالْبَلَاغِ عَمَّنْ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وطاوس، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ صُحْبَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " فِي شَرْحِ حَدِيثِ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَسُؤَالِهِ: أَحْكَامُ الْآخِرَةِ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْقِيَاسِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا لِلنَّظَرِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ القرطبي فِي " التَّذْكِرَةِ ": هَذَا الْبَابُ لَيْسَ فِيهِ مُدْخَلٌ لِلْقِيَاسِ، وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ لِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمُرْسَلِ إِلَى الْعِبَادِ، انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ التَّابِعِينَ تُحْمَلُ عَلَى الرَّفْعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ، عَنْ أبي جعفر محمد بن علي قَالَ: كَانَ علي بن حسين يَذْكُرُ «أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا احْتُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ نَادَى حَمَلَتَهُ إِذَا بُشِّرَ بِالنَّارِ فَيَقُولُ: يَا إِخْوَتَاهُ، مَا عَلِمْتُمْ مَا عَايَنْتُ بَعْدَكُمْ، إِنْ أَخَاكُمْ بُشِّرَ بِالنَّارِ، فَيَا حَسْرَتَاهُ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، أَنْشُدُ بِاللَّهِ كُلَّ وَلَدٍ أَوْ جَارٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ أَخٍ إِلَّا احْتَبَسَنِي عَنْ قَبْرِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ صَاحِبِكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا أَنْ تُوَارُوهُ فِي التُّرَابِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُنَادُونَ: امْضِ عَدُوَّ اللَّهِ، فَإِذَا دَنَا مِنْ حُفْرَتِهِ يَقُولُ: مَا لِي مِنْ شَفِيعٍ مُطَاعٍ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِذَا أُدْخِلَ الْقَبْرَ ضُرِبَ ضَرْبَةً تَذْعَرُ لَهَا كُلُّ دَابَّةٍ غَيْرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَأَمَّا وَلِيُّ اللَّهِ إِذَا احْتُمِلَ إِلَى قَبْرِهِ وَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ نَادَى حَمَلَتَهُ: يَا إِخْوَتَاهُ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنِّي بُشِّرْتُ بَعْدَكُمْ بِالرِّضَا مِنَ اللَّهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَالنَّارِ، فَعَجِّلُوا بِي إِلَى حُفْرَتِي فَ {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ - بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: ٢٦ - ٢٧] ، وَالْمَلَائِكَةُ يُنَادُونَ: امْضِ وَلِيَّ اللَّهِ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يُثِيبُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الْعَظِيمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute